العالم الإسلامي شاسع واسع، وهو شديد التنوع والاختلاف إلى درجة أنه يصعب علينا تبني مثل هذا المصطلح. فالمصطلح الذي لا يدل على حقيقة منسجمة أو كيان موحد ليس مصطلحًا فعالًا ولا شغالًا. فأنا لا أستطيع أن أتحدث لك هنا عن أندونيسيا، وهي قارة لوحدها وتشكل أكبر دولة إسلامية من حيث العدد، ولا أستطيع أن أتحدث لك عن تلك الأقلية الإسلامية الضخمة في الهند، ولا عن المسلمين في بنغلاديش أو الباكستان... أقول ذلك على الرغم من أن عدد المسلمين في كل واحد من هذه المجتمعات يتجاوز اليوم المائة مليون نسمة! وإذن فعن أي عالم إسلامي تريد أن أتحدث؟ سوف أقترح عليك أن نقصر طموحنا في هذه الدراسة على تناول العالم الإيراني - التركي - العربي - البربري، وهذا بحد ذاته نطاق جغرافي - تاريخي شديد الاتساع ويتجاوز حتى إمكانياتنا في الفهم والاستيعاب، ولكن مع ذلك..

دعنا نحصر اهتمامنا به، فهو متجانس تاريخيًا، ويتميز بصفات مشتركة ودائمة. فهذا النطاق هو الذي شهد ظهور الحضارات المتوسطية والشرق أوسطية الكبرى وتشكلها وتوسعها. وهو الذي شهد ظهور أديان الوحي الكبرى من يهودية ومسيحية وإسلامية، كما وشهد أيضًا الزرادشتية والمانوية. وهو الذي شهد ظهور الأنظمة القانونية والفنون المعمارية وتقنيات الري والزراعة والآداب، وكلها أشياء انتشرت وشاعت حتى وصل تأثيرها إلى أوروبا. ونحن نعلم أن الإسلام قد ساهم إلى حد كبير في نشر هذه الأفكار والصور والتصورات والقيم والفنون وأنماط الحياة داخل ذلك النطاق الجغرافي الواسع الأرجاء. كما ونعلم أن أوروبا القرون الوسطى تدين بالكثير للإسلام ولعطائه الحضاري. والسؤال المهم الذي يطرح نفسه هنا هو التالي: لماذا تخلف هذا الفضاء الغني جدًا بالإمكانيات الثقافية والفكرية والعلمية والتقنية والاقتصادية عن ركب الحضارة والتقدم، لماذا أصبح في المؤخرة بعد أن كان في المقدمة؟ لماذا ظل على هامش الحركة الحضارية التي نهضت بأوروبا الغربية وحدها بدءًا من القرن الثالث عشر؟

كانت الباحثة جانيت أبو لغد قد قدمت عناصر أولى مهمة جدًا للإجابة عن هذه الأسئلة في كتابها «قبل الهيمنة الأوروبية». وأما المؤرخ الفرنسي الكبير فيرنان بروديل فقد قدم إيضاحات تاريخية أكثر اتساعًا وشمولية في كتابيه الكبيرين المتوسط والعالم المتوسطي في عهد فيليب الثاني. ثم: «تاريخ الحضارة المادية». ثلاثة أجزاء، 1980.


ولكن المرحلة التي تتطلب تفحصًا أكثر عمقًا من أجل الإجابة عن هذا السؤال هي المرحلة العثمانية (1516 - 1924). لماذا؟ لأنها هي التي رافقت الصعود الذي لا يقاوم للحداثة في أوروبا، صعود متدرج ومتواصل دون تقطع منذ القرن السادس عشر. قلت رافقتها وكان الأصح أن أقول: تزامنت معها. ذلك أنها لم تفعل شيئًا تلحق بها أو توازيها. وكانت في ذلك الوقت تسيطر بشكل مباشر أو غير مباشر على مقدرات ذلك النطاق الجغرافي الواسع الأرجاء والمدعو «بالعالم الإسلامي» سيطرتها على إيران والمغرب الأقصى كانت غير مباشرة. لقد سيطرت على تلك المنطقة الإيرانية - العربية - التركية - البربرية حتى القرن التاسع عشر دون أن تساهم في تطويرها أو تقدمها. وهكذا بقينا متخلفين جدًا عن النجاحات الهائلة التي حققتها أوروبا على مختلف الأصعدة: علمية واقتصادية وسياسية وقانونية وفكرية ولم تفعل الإمبراطورية العثمانية أي شيء لردم هذه الهوة التي ما انفكت تتسع وتتزايد بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط كلتيهما. ولذا أرجو ألا نتهم مرة أخرى هذا الأقنوم من الإسلام ونعتبره المسؤول عن كل شيء: أي عن تلك اللامبالاة أو الجمود تجاه ما يحدث من طفرات نوعية حاسمة في عالم قريب.

1991*

* باحث أكاديمي ومؤرخ جزائري «1928 - 2010»