استخدام الحداثة المادية ونتائجها يعتمدان بصرامة على نوعية الحداثة العقلية المستعملة. نحن نلتقي مرة أخرى المسلمات المعرفية، إذ تدين في آن واحد المادية الاستلابية والهذيانات الفكرية للحداثة «الرديئة».

ما هي إذن المسلمات الناشطة دائما ضمن المجال الإغريقي - السامي؟ لقد آن الأوان لتجميعها من أجل أن نكمل تناولنا للحداثة، ومن أجل الاستعداد لتحليلنا للإسلام.

سوف تتركز دراستنا حول المثال الإسلامي تاركين للقارئ مهمة كشف التطابق أو التشابه مع المثال الغربي - المسيحي، ولنتذكر جيدا أنه من التعسف استبعاد الإسلام من العملية البطيئة لإنجاز الحداثة. نلاحظ التوترات والتأكيدات الأساسية التي أدى أخذها المستمر من قِبل الفلاسفة وعلماء اللاهوت اليهود والمسيحيين والمسلمين حتى يومنا هذا إلى تقوية الوعي في الإنسان بأنه فاعل، وأنه موهوب بذكاء يجعله «خليفة الله على الأرض» (القرآن)، وأنه يملك إرادة قادرة على أن تشق طريقها في درب للقران، ذلك أن شعوبا بأسرها قد بقيت حتى القرن السابع للميلاد دون أن تتأثر، أو أنها تأثرت قليلا بتيارات الفكر الإغريقي - اليهودي - المسيحي.


هذه الشعوب أخذت تهتدي بدورها إلى هذه «الحداثة» التي يمكن تعريفها بأنها إرادة إلغاء الإنسان القديم (الموصوف بالكافر = غير المخلص للعهد الأساسي، أي للميثاق في لغة القرآن) لمصلحة الإنسان الجديد أو المعتقد - المخلص «المؤمن». وهكذا فقد تم الاتفاق، بشكل مزدوج، على أن نتكلم عن الحداثة فيما يخص الدخول في التحالف القديم والجديد.

الديانات الثلاث لا تزال مستمرة في توجيه السلوك الأكثر دلالة للمؤمنين وسط حداثتنا اللاهبة (كل ذلك من خلال نظم التحديد للإيمان واللا إيمان).

يستخدم «الإنسان الجديد» التحالف/الميثاق تصورا يتعذر دحضه من وجهة نظر سوسيولوجية، وهو مفهوم «التراث الحي» La Tradition Vivante، وذلك من أجل أن يؤكد استمرارية وجوده في وجه الحداثة المعاصرة (مثلا الإلحادية الماركسية - التيارات المؤيدة الإنسان المؤمن).

تأخذ هذه المناقشات أهميتها الفلسفية الجديدة فعلا في مقابل كل المناقشات السابقة حول الإيمان والعقل والدين والفلسفة.. إلخ. إن الجدة، أو إذا شئنا، الحداثة «الجديدة» ينبغي أن تلمس على مستويين:

1- مستوى تاريخي جماعي، حيث سبق أن حصلت ولا تزال تحصل حتى اليوم تغيرات ثورية ذات استلهام ماركسي/ لينيني.

2 - مستوى علمي، حيث نجد بعض الباحثين المتعمقين يعدلون، يوما بعد يوم، من معرفتنا للواقع.

إن احتكار تفسير نظام الأشياء، وتبرير السلوك الإنساني أو القرار فيما يخص الأعمال المفيدة من أجل خلاص الجماهير.. كل ذلك إن لم يكن قد انتزع كليا من يد الأديان، فإنها قد خوصمت فيه.

ومن أجل تقدير حجم رهان هذه المنافسة، فإنه من المهم أن نذكّر، باختصار، بالمبادئ المنظمة للميتافيزيقا الإغريقية - السامية، وسوف نرى فيما بعد كيف أن أزمة هذه المبادئ تجبرنا - اليوم - على أن نتكلم بشكل مختلف على «أديان الكتاب».

ضمن هذا الفضاء تسجل آثار كل التدخلات والتناقضات والتدميرات.. إلخ المثارة بسبب غلبة الحديث على القديم، الحيوي على التراثي، عدم الرضا على العادي، الآلهي على الإنساني. هنا بالضبط في الإسلام يحدث المرور من الفعل القرآني إلى الفعل الإسلامي، من اللغة الأسطورية أو الرمزية إلى اللغة الاصطلاحية، من الرغبة إلى التأسيس.

يكتب جورج بالانديير: «كل مجتمع، أي مجتمع، يندر أن يفهمه الناس كما هو عليه في الحقيقة، أي كعملية مستمرة من التوالد أو كشكل من الأنظمة الحية التي تبنى باستمرار. على العكس من ذلك، يخيل للناس أن المجتمع هو نوع من النظام المعطى المرسخ والدائم، الذي انبنى مرة وإلى الأبد. إن جميع المؤسسات الموجودة تسهم في تغذية هذا الوهم في النظر إلى المجتمع. بالمقابل، فإن هذه المؤسسات تأخذ في اكتساب الصفة الإيجابية، بادية وكأنها مستقلة تماما عن الناس الذين كانوا قد خلقوها، ثم تأخذ (أي هذه المؤسسات: مؤسسات المجتمع) في فرض نفسها وكأنها لم تكن جوابا - ضمن أجوبة أخرى ممكنة - على المشاكل التي يفرزها أي وجود جماعي. بالإضافة إلى ذلك، فإن الأيديولوجيات الدائمة التي تجمع ما بين الدولة المركزية (الخلافة الإسلامية - البابوية - الأباطرة والملوك المسيحيين) وبين الدين (السني - الأرثوذكسي - الكاثوليكي.. إلخ)، وذلك إلى جانب ثقافة مهيمنة ذات كتابة».

نجد، اليوم، أن الإرادة المركزية للدولة + السيطرة العقائدية للثقافة المهيمنة تعملان بطريقة أكثر نمطية وحدة مما كان عليه الحال في الماضي، وذلك تحت شعار «الوحدة الوطنية المقدسة».

إننا نشهد في المجتمعات التي هي «في طريق التطور»، كما في المجتمعات المتطورة، ظواهر متشابهة للتصرفات الأسطورية أو البالية. ففيما يخص الحالة الأولى، فإن الإخفاقات أو الانقطاعات الطويلة للعمل التمديني قد زادت في عمر الآليات العتيقة للوجود الاجتماعي. أما في الحالة الثانية، فقد حدث العكس، ذلك أن عملية التطور ذات التواصل المستمر العنيف قد أدت إلى ردود فعل، والرجعة إلى الثقافات واللغات الإقليمية، وأنواع السلوك الهائجة، وما هو فوق الطبيعي، وإلى طبيعة - نظام - أشياء، إلى الطبيعة - التحرر، إلى الطبيعة - الراحة، إلى الطبيعة - السعادة.. إلخ.

في كلتا الحالتين يتكرر حدوث الخلط ما بين عملية إلغاء الأسطورة / الرجعية والأسطورة، ضياع الشخصية / تحقيق الشخصية، وأيضا عملية الأدلجة المحررة (حركات التحرر الوطنية).

في المستوى الذي نركز فيه تحليلنا، فإن صيغة العصر الكلاسيكي تطغى على كل الفترات المعتادة للتاريخ الغربي. تشير صفة «الكلاسيك» إلى كل ما هو متوافق مع الشيء الذي اعتدنا أن نراه، أن نذوقه، أن نحسه، أن نفكر فيه وأن نفعله. هكذا الجديد، فإنه يعبر عن التصاقه بالصيغة الكلاسيكية، ومعارضته الحداثة التي تشق دربها.

1979*

* باحث أكاديمي ومؤرخ جزائري «1928 - 2010»