الموت هو الحقيقة المطلقة في هذه الحياة، ورغم إيماننا بتلك الحقيقة، إلا أننا نحاول تجاهلها قدر استطاعتنا، ورغم ذلك فإنها تنال منا كلما علمنا بموت أحدهم وكأنها تطل علينا وتذكرنا بوجودها، وأن هذا الطريق سيسلكه الجميع كل بميعاد... الموت هو إظهار لقدرة الله سبحانه وتعالى، وبرهان على البعث والوقوف أمام رب العالمين يقول سبحانه وتعالى «وكل نفس ذائقة الموت» ونحن كمسلمين نؤمن بالدار الآخرة، والموت مرحلة من مراحل الحياة الأبدية وخلود الروح، والقبر هو أول مساكن تلك الديار الخالدة، يقول سبحانه وتعالى «وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون» ورغم يقيني بكل هذا، إلا أن فقد أخي عبدالله رحمه الله، وضعني بكل قسوة داخل دائرة الموت لأعايش تلك الحقيقة وأعاني تداعياتها، لأشعر وقتها أن الموت لا يوجع الأموات بقدر ما يوجع الأحياء، وربما أن مصدر تلك الأوجاع أن طاقة الذكريات تفتح على مصراعيها، وأحداث وتفاصيل السنين الطوال تمر أمامك في وقت قصير وبتسارع عجيب، ويا لها من تجربة، خصوصاً إذا كان محور تلك المشاهد والذكريات هو أخي عبدالله رحمه الله، أبا عبدالعزيز لم يكن أخا أكبر، بل هو والد كريم فقد شرفت بالرضاعة من زوجته وأمي السيدة العظيمة «نوره أبو ملحة»

منبع كل صفة كريمة تشرف كل امرأه بامتلاكها، وشاركني ذلك الحليب النقي أخي الحبيب «أسامة بن عبد الله»

فنشأنا وترعرعنا في منازل متعددة يحتويها البيت الكبير، وكانت أسرنا العديدة تنصهر في بوتقة العائلة الأم، ولكم أن تتخيلوا كم كنت محظوظاً، ففي أي منزل كنت أنزله منها كان هو منزلي، ولي فيه أب وأم وأخوة، وحب وحنان وعاطفة جياشة، تسير بشوق عبر جسر روحاني جميل تشكل بحب بين تلك المنازل.

وعلى خلفية تلك المشاهد تكونت تلك الملحمة الأبوية، لتنمو ويمتد عطاؤها المتدفق حبا وتضحية وتربية وتوجيها واحتواء، والتي لم تتوقف وينتهي آخر فصولها إلا مع مفارقة روحه إلى بارئها الكريم.

حياة عبدالله أبوملحة عبارة عن مجموعة من الملاحم الخالدة، عشنا أولاها خلال السطور السابقة، ومع مضي قطار الحياة وتبعا للظروف المحيطة والمستجدة، كانت تتكون ملحمة بعد الأخرى، محورها أو أحد محاورها الرئيسية في كل مرة، هو أخي عبد الله، وكل واحدة منها تحتاج الكثير من الجهد في سردها، والسبب أن هذا الرجل الأشم يملك قدرة فائقة على العمل والإنجاز والإبداع، وذلك لما حباه الله من كاريزما فريدة وقبول فطري لدى الآخرين، وقلباً مفعماً بالإخلاص وقدرة فائقة على تخطي العقبات والصعاب، والتعايش النادر مع أصعب الظروف وتطويع النجاح والإنجاز المشرف ليكون حليفه الدائم، ولهذا أتت تلك الملاحم الخالدة بدءا من ملحمة الوطن، الذي كان يسكنه فكان أحد فرسان التنمية وعرابيها في منطقة عسير، وكانت ملحمة الأعمال الخيرية بكل إنجازاته في جمعياتها ومؤسستها المختلفة، وكانت ملحمة الأعمال المجتمعية بكل أنشطتها وأدواره القبلية المتعددة وغيرها الكثير.

عبد الله أبوملحة كإنسان كان شديد البساطة، دمث الأخلاق فائق التواضع، وكان لا يؤمن بالمجاملة على حساب المصلحة العامة، وتبيان الحق وصراحته المعروفة وحدته في قول الحق، لم تكن تغضب أو تثير حنق الآخرين، لأن معرفة الناس حقيقة تلك الشخصية الفريدة ونقاء سريرتها شكل لديهم المبرر الكافي لقبول آرائه... لم تكن الدنيا تشكل لأبى عبد العزيز أكبر همومه، وساعده على ذلك أن رزقه الله القناعة في جميع أمور حياته، ولا يخفى على الكثير أن هذا الرجل ضحى بالكثير من ماله على حساب كثير من أعماله الخاصة، في سبيل أعماله وجهوده العامة لخدمة الصالح العام.

أبو عبد العزيز كان طلق اليد ينفق إنفاق من لا يخشى فاقة، أخي عبد الله كان وكان وكان... هو اختصار أمة في رجل بل يكاد يكون كجامعة، تملك كل أقسام وتخصصات الخصال الحميدة والشمائل الكريمة والخبرات المتراكمة في كل المجالات، جامعة أبوابها مشرعة مرحبة لكل من أراد أن ينهل منها، من غير أذى ولا منة.

ولأعود مرة أخرى إلى واقعي الحزين بعد كل ما ذكرته آنفاً، من ذكريات وانطباعات عن أخي الحبيب، كان موته سبب في تدفقها بلا حساب، فأجد نفسي ماثلا أمام جثمانه الطاهر المسجى أمامي طابعاً قبلة على جبينه الناصع، وحين أغمضت عيني للحظات وجدت أمامي ظلاماَ يغطي الأفق البعيد، وتراءى لي أن جثمانه الطاهر يرتكز واقفاً ووجه الجميل وعينيه اللامعتين تقشعان هذا الظلام، هل استمر في غلق عيني لعلي أحظى بتوجيه أبوي كريم وأخير، ولكن هيهات فقد طلبت المستحيل ولكنني لن أمنع نفسي من البوح لنفسي قائلا، ذلك أخي الذي مات واقفاً.