كأمة لها سند وشواهد من التاریخ نفخر به یجب علینا أن نواصل الاستمرار علی هذا الإرث الذي توارثناه جيلا بعد جیل، ولا نبقی شهودا خرسا علی تلك النار التي تشتعل في قلب أرضنا علی أیدي قلة من سماسرة الحروب، لزرع الفتنة والقلاقل بین شعوب الأمة الواحدة، تحت شعارات إفك وضلال بعض من یزعجهم أن تعیش الأمة في أمن وسلام.

ودعوني أنبه أیضا إلى أن الرکود الذي یعیشه العالم العربي لا یمكن أن یدوم طویلا وسط واقع حافل بالمتغیرات، لقد جربنا طرقا کثیرة للتخلص من هذا الرکود والجمود العربي حتی لیبدو أحیانا أن کل الطرق أمامنا قد أصبحت موصدة، وأن الخیارات قلیلة ولكن الذین یستقرئون المستقبل لا یقعون في هوة هذا الوهم، لاعتقادهم بأننا نملك العزم والقوة للخروج من هذا المأزق كما نملك قدرة کافية للتجدد، وبإمكاننا تغيیر هذا الواقع المتردي الذي لا ینقذه من ثباته غیر العقل العربي.

وحتی نبدأ عملیة التغییر یجب علینا أن نتخلص من ثقافة مكر مفر معا، ونتجه صوب الأخذ بالأسباب التي أهملناها طویلا، وکل ما أرجوه وآمل ألا نهملها أبدا من أجل إیقاظ الذات بحقائق المقارنة مع الغیر، والغیر هذه المرة لیس وقفا علی من نواجهه داخل منطقتنا العربیة، بل من یطل علینا بتقدمه العلمي من شرفات الغرب، وننظر إلیه في عجز وقعود، إذ لا بد أن نفكر جیدا في ردم الهوة بیننا وبین غیرنا، ولا سبیل إلی ذلك غیر ثقافة العلم والتكنولوجیا التي بات یشار إلیها بمصطلح الثقافة الثالثة.


فالجمهور الذي لا یفهم کیف یعمل العلم یمكن بسهولة أن یقع ضحیة للجهلاء أو لأصحاب الشعارات المزیفة، ذلك أن نشر الثقافة العلمیة عموما یشكل مساهمة صقل الإنسان بفعل المعرفة، کما أن وعیه بالعالم الذي یعیشه مكانا وزمانا سیزید من شدة بصره ودقة بصیرته في الحرکة نحو مواقع جدیدة، علاوة على رقیه في المجتمع والحیاة المعیشیة.

کما أن نشر الثقافة العلمیة کفیل بحمایة المجتمع من الاستخدامات السیّئة للعلم، أما عن استثمار الثقافة في التنمیة الإنسانیة.

فلا شك أن الطفل والصبي والشاب الصغیر المزود بالثقافة العلمیة منذ نعومة أظافره، سیكون قادرا علی اختیار التخصص الذي یتلاءم مع مواهبه وقدراته الخاصة ویحدد اتجاهه بشكل أصوب، ويكون عطاؤه أنجح، ویكون المردود علیه أکثر، وعلی مجتمعه أوفر عطاء وإنتاجا وأرفع قیمة.

ومما تقدم فلتكن الثقافة الثالثة هدفا من أهداف‌‌ النهوض العربي المأمول، لكنها لا یجب أن تكون الشكل الوحید من أشكال الثقافة التي ینبغي إعلاء شأنها، فالثقافة طیف واسع من الألوان ینبغي أن یبدأ بالرقي والجمال، ویظل یطمح بهما دائما، ومن ثم لا یهمل الإنسانیات، فهي لیست فقط شرطا من شروط حدوث النهضة العلمیة وغیرها، بل هي صمام أمان لتظل أي نهضة بوجهها الإنساني دائمة التألق والاستمرار في الحیاة، لمصلحة الإنسان والبشریة جمعاء لأطول وأفضل وقت ممكن!!!