قبل الثامن عشر من أبريل 2018 لم تكن القدرة على مشاهدة فيلم سينمائي في قاعات خاصة بالسينما أمر يصدق في المملكة العربية السعودية، لكن افتتحت أول قاعة سينما بالرياض في هذا التاريخ، بعد قرار السماح بدخول السينما رسميا في المملكة قبله بعدة أشهر، والذي تلته عدة مبادرات من جهات رسمية، لتفعيل جانب جودة الحياة في «رؤية المملكة 2030»، من خلال «السينما.. صناعة ومشاهدة». جميع ما سبق هذا التاريخ في واقع السينما السعودية كان بدايات غير رسمية وتجارب لمحترفين أو هواة بأفلام، غالبا، ما تكون قصيرة أو وثائقية، تعرض في مهرجانات ومسابقات عالمية، أو بعض المهرجانات المحلية التي تقوم على جهود فردية في مطلع الألفية، ووسط شغف خاص للأفراد بمتابعة جديد السينما العالمية من خلف الشاشات، وعبر مواقع الإنترنت المختلفة.

ما حدث الأسبوع الماضي في مدينة جدة السعودية، ومن قلب «بلدها» العتيق، بافتتاح الدورة الأولى لمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، يلغي كل السنوات من تأخر صناعة السينما السعودية بطريقة أو بأخرى، خاصة أنه مهرجان برعاية حكومية، واستضيفت فيه كبرى شركات الإنتاج السينمائية العالمية، وشاركت فيه أسماء عالمية كبيرة على مستوى التمثيل أو الإخراج أو الإنتاج، مما يؤكد أن إرادة التغيير هي الأهم في تسريع كل أمر متأخر أو متوقف أو لم يتم الإيمان به على مستوى شعبي كبير. ولعل الأمر اللافت أكثر في هذا المهرجان الدولي هو أن أنظار العالم المهتمة بالفن السينمائي اتجهت مباشرة نحو قلب أعرق منطقة تاريخية في المملكة، منطقة البلد، وهو ذكاء من المنظمين، لدمج الهوية والتراث التاريخي السعودي في أحد صوره بالعالمية والصناعة السينمائية، التي تنقلها وسائطها البشرية والمادية لمختلف الجهات.

على امتداد السجادة الحمراء في وسط البلد بجدة، ظهر المدعوون والحاضرون لهذه المناسبة العالمية كما يليق بسجاد أحمر عالمي مع ميزة خالصة للسعودية، ميزها من اعتاد متابعة وحضور المهرجانات السينمائية العالمية، وهي لمسة من الهوية المحلية على أزياء الحاضرين، سواء بتعمد بعض الرجال من غير الخليجيين لبس الثوب السعودي، أو الاحتشام الواضح في ملابس الحاضرات، وهذا ما جعل من عبارة «الضيف في حكم المضيّف» ماثلة على ذلك السجاد الأحمر، وأضفى طابعا من الاحترام والاختلاف والهوية الخاصة التي تجسدت في كامل المشهد بشكل عفوي، لم تتدخل فيه تعليمات أو سياسات عامة.


في الفن يعد دخول المناطق المغلقة، فكريا واجتماعيا وثقافيا، مهارة تعتمد على ذكاء من يحاول تجاوز أسوار المنع والإغلاق، وهذه البداية القوية لمهرجان سينمائي سعودي/عالمي في دورته الأولى لن تفتح الباب لصناعة السينما المحلية فحسب، بل سترفع من الفضول الذي لا يفارق المبدع لاكتشاف الآخر، واقتحام ما خلف الأبواب -كأبواب البلد في جدة- وستعطي المنتج العالمي الثقة فيما سيعمل من أجله كمغامرة جريئة لمنطقة تعد حديثة عهد في عوالم السينما على أرض الواقع.

في الاهتمام بواقع السينما السعودية، ينقسم هذا الواقع إلى ناحيتين: الأولى للأفراد، خاصة الجيل الجديد، وما يملكه من مهارات وأدوات، تعد المادة الخام لصناعة سينما محلية مميزة، سواء من حيث النصوص والأفكار، أو التصوير، أو الإخراج والمونتاج، أو بقية الأمور الفنية الأخرى المتعلقة بإنتاج الأفلام. والناحية الثانية هي التي تقع على عاتق القطاعين الحكومي والخاص، لجعل صناعة الأفلام أكثر احترافية وتميزا بتوفير الدعم والتسهيلات، وبقية الدعم اللوجستي. ومن المهم أن يركز كلا الطرفين في جودة الفكرة التي تقدم السينما السعودية، أفكار بعيدة عن التسطيح والتفاهة والتكرار، والبُعد عن تلك التي تدعي المثالية والكمال. فتنة السينما أنها انعكاس لمرآة الروح، وصورة الإنسان، وحقيقة المجتمعات التي لا يستطيع تجسيدها إلا الفن وحده.

من الجميل أن يواكب هذا الاهتمام بصناعة السينما السعودية، وتوجه الأنظار عالميا إليها، اهتمام إعلامي مختص، على سبيل المثال استحداث قناة فضائية سعودية، تتبع لوزارة الثقافة السعودية، تهتم بعالم السينما، وما يستجد فيه عالميا، وكيف يسير محليا، يشرف عليها الشباب المهتمون بهذه العوالم، لتكون صنعة مستمرة لا اهتماما طارئا، ولتكون واجهة مستمرة لنقل هذه الفعاليات والمستجدات للمتلقي.

«أمواج التغيير» رفع هذا الشعار على واجهة مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي هذا العام، وهو بالفعل تغيير شامل لا على مستوى السينما السعودية وحسب، بل على مستويات أكبر، تمتد للأفكار والهويات والمسؤوليات التي وقفت أمام هذه الأمواج بثبات وإصرار، ومقدرة على النجاة.