الإنسان عدو ما يجهله، وبطبيعة الحال التجارب التي يخوضها الإنسان هي ما تكون شخصيته، وتصقل تكويناته الفكرية والقيمية، وبالتالي تؤثر وتتأثر في جميع ما يتعرض له من أحداث يومية، تجعله يظن أنه يعلم وهو لا يعلم.

جميعنا لا نسلم من وهم المعرفة بدرجات متفاوتة، حيث إن الإنسان يتماهى مع المعلومات التي يعرفها وكأنها حقائق مسلمة، دون نظر أو إمعان، وكما قال سقراط منذ أزل: «كل ما أعرفه هو أنني لا أعرف شيئاً».

نحن نبالغ في تقدير المعلومات التي نمتلكها ونظن أننا نعرف جميع التفاصيل، لو سُألت عن الدراجة الهوائية وهل تستطيع أن تصف أجزاءها؟ فالإجابة البديهية بنعم، وحينما تجيب لن تستطيع وصف جميع القطع وماهيتها، بل لو طلب منك رسمها ستظن أنك تستطيع رسمها ولو على شكل رسمة تقريبية، ولكنك لن ترسم الدراجة بشكلها الصحيح، وقد تبدل أجزاؤها وقت الرسم وربما تخرج الدراجة بدون جنزير أو أي تفصيل مهم، لكونك درجت على رؤيتها اعتقدت أنك مُلم بدقائقها.


فخ وهم المعرفة يصور ويبالغ في إعطاء الصلاحية المطلقة للأفكار، نحو تضخيم وتقدير الأنا على الرغم من عدم امتلاك الأرضية الصلبة في نفس المجال، وكما يقول ابن قيم: «العلم ثلاثة أشبار من دخل في الشبر الأول تكبر، ومن دخل في الشبر الثاني تواضع، ومن دخل في الشبر الثالث علم أنه لا يعلم».

نجد أن الشخص الدخيل على المجال الثقافي والمعرفي، بمجرد قراءته لكتاب يظن أنه خاض في حيثياته وتفاصيله، ويخرج هاتفه الذكي لينشر تغريدة عنه وقد يصنع محتوى مرئيا يذيل فيه تلك المعلومات المعلبة التي قد تكون خاطئة أو أنها بداية لأفكار أخرى، وربما لم يدركها من الأساس أو يستوعبها الاستيعاب الكافي من لهم باع في المجال، هم الأكثر دراية وإلماماً بتلك المعلومات سواء بالإضافة إليها أو الحذف أو التأكيد والنفي.

وسائل التواصل الاجتماعي وسرعة النفاذ للمعلومة، من أكبر أسباب وهم المعرفة بل أنه المنفذ الرئيسي له، حيث إن الاطلاع على تلك المعلبات التي تتناقلها الهواتف المضيئة، مع تصميم جرافيكي وإخراج يحاكي العواطف بالألوان الزاهية، يجعل الشخص يتبنى تلك المعلومات بل ويحاول نشرها وشرحها لمحيطه، دون أدنى علم أو دراية بفحواها أو مدى جدواها، خطره ليس على نفسه بل ينتقل للآخرين، بعكس الجاهل بالمعلومة فهو يعلم بأنه لا يعلم.

ومن المقولات الساخرة في وهم المعرفة لرجل الأعمال Naval Ravikant: «لا تعطني المحاضرة أعطني الكتاب، لا تعطني الكتاب أعطني المقال، لا تعطني المقال أعطني التغريدة، لا تعطني التغريدة فأنا أعلم بالفعل».

عصر السرعة جعل تبني الأفكار أسرع من استيعابها، وهضمها ونقدها وتمحيصها قبل الشروع في احتوائها، التفكير الناقد المتعمق بالمنهجية العلمية في أي مجال كان هو ما يقطع سمية تلك الإفرازات.

نشوة الإنسان بالمعلومات التي يمتلكها تجعله يسعى لمشاركتها مع الآخرين، حتى لا تكون عبئاً عليه، ويستقي الإنسان المعرفة ويعبر عنها من موروثه اللغوي، فهو يبني معرفته من لغته التي تعطيه المفردات التي يفكر بها، لذلك هي الأداة الرئيسة في التفكير والتي تعبر عنك وعن جوهر نطاقاتك، لذلك من السهولة أن تبني التصورات وتشرح وتحلل وتتصور وتشاطر آراءك بناء على حجم لغتك، التي لا تستوعب كل شيء وذلك المنفذ الثاني في وهم المعرفة اللغة.

سأسوق مثلاً نشاهده كثيراً وهو شاب توظف واجتهد في عمله، وترقى خلال إلى أن وصل مرتبة مدير في مدة أقصاها ثلاث سنوات تجد أنه في الغالب لا يستمع إلى من هم أقل منه، على الرغم من الخبرات التي يمتلكونها، ولكن وهم المعرفة بحكم المكانة التي ساعدته الظروف وإمكانياته في الوصول إليها حالت بينه وبين الموظفين الذين يديرهم ومنحته أحادية الاتجاه، بعدم تقبل أفكارهم، وأنه هو الشخص الأجدر بتطبيق أسلوبه الإداري بناء على منصبه الوظيفي، وذلك المنفذ الثالث وهو المكانة الاجتماعية.

وأختم مقالتي بمقولة Stephen King: «العدو الأكبر للمعرفة ليس الجهل إنه وهم المعرفة» كما أنصح بالاطلاع على مقالتي المنشورة تحت عنوان لعنة المعرفة للتفريق بين المصطلحين.