عند الحديث عن مكة المكرمة لا بد لنا من مراعاة تنوع عادات أهلها وتقاليدهم، وتعهد هذا التنوع بمزيد من العناية، ولا بد من الأخذ بعين الاعتبار توليفة المكون الاجتماعي المكي، الذي ضم في تركيبته معظم الأعراق والأجناس الموجودة على وجه الأرض، وبه انفردت مكة المكرمة عن سائر مدن العالم، فأحرزت فارقا في تعدد اللهجات وتداخل اللغات بهذا التنوع، إلى جانب الفوارق الأخرى المعروفة عن مكة المكرمة دينيا وتاربخيا. وبنحو من ذلك، لا بد من أن يشار إلى الثقافات المتعددة التي أٌكتسبت نتيجة التواصل والاحتكاك المباشر مع رحلات أفواج الحجيج، وتوافد الزوار القادمين عليها من جميع أصقاع الأرض بصفة عامة، ومن العالم الإسلامي بصفة خاصة. ويجب أن نضع نصب أعيننا في أثناء ذلك الآثار والانعكاسات المترتبة والمحيطة بهذا الاحتكاك، كونه لعب دورا محوريا في تكوين مجتمعاتها، وأدى إلى استقلال أهلها بالتبحر في ميادين العلوم والمعرفة الخاصة بتلك الدول، حينما فتحت طلائع أفواج الحجيج ورحلات الزوار مجالات خصبة وأبوابا رحبة، سمحت لهم بالإطلاع على أنشطتهم الثقافية، وحضارتهم العريقة، وفنونهم التقليدية المتنوعة، وإرثهم الاجتماعي الخاص بهم في فترات مواسم العبادات. وقبل ذلك، لا ننسى مرحلة النشأة والمكوث الطويل وسط مزيج من الطباع والسجايا المتفاوتة، والصفات المتباينة والمتأرجحة بين القسوة واللين والبأس والمرونة.

لمكة المكرمة، بما فيها من موروث عريق، أحداث ومواقف وأنباء وقصص كثيرة، قديمة وحديثة، تستحق أن تروى، وأفضل من يقوم بهذا الدور بصفة خاصة هو عبدالله أبكر، الباحث والمؤرخ المكي المعروف، المهتم بالتراث المكي، فثمة وجوه كثيرة وجوانب عديدة من وجوه وجوانب التراث المكي، المعاصرة منها والقديمة، تطرق إلى الحديث عنها عن سابق علم وسعة معرفة، سواء إذاعيا أو تليفزيونيا أو من خلال مؤلفاته العديدة التي ألفها عن مكة المكرمة ورجالاتها.

لا مانع من أن أذكر هنا بعضا من تلك المؤلفات: كتاب «صدى الأيام.. ماذا في حارات مكة؟»، و«أزقة مكة.. صور وحكايات من عبق التاريخ»، و«الصهبة والموشحات الأندلسية في مكة المكرمة»، و«صور من تراث مكة المكرمة»، وغيرها من الكتب والدواوين الخاصة بمكة، فضلا عن المقالات الدورية التي نشرت في الصحف والمجلات المحلية والعربية، وعوضا عن الجوائز وشهادات الشكر والتقدير التي تحصل عليها محليا وعربيا.


في هذه الأثناء، وأنا أكتب هذا المقال، يبث عبر أثير إذاعة «نداء الإسلام» من مكة المكرمة برنامج «ببكة وطيبة»، الذي يسلط فيه عبدالله أبكر الضوء على بعض جوانب الحياة المكية، وطبائع أهلها الغائبة ربما عن أذهان كثير من الناس. كما يستعرض، من خلال حلقات البرنامج، الحقبة الزمنية التي عاصرها مع أعيان مكة.

يقول «أبكر»، في إحدى حلقات هذا البرنامج، من جملة ما ذكر، إن أهل مكة إذا ما فاتتهم أو تأخروا عن إدراك الصلاة كانت لهم قدرة في التمييز بين الركعة الثانية أو الأخيرة وهم خارج الحرم من خلال التكبيرات، فأئمة المسجد الحرام كانوا يصيغون التكبيرات وفق الركعة عبر نبرة صوت معينة، يعلم بها القادم إلى الصلاة من مكان بعيد.

من فوق منارات الحرم المكي السبع، أشير إلى أن «أبكر» هو أحد القلائل الموجودين في الساحة ممن يملكون مخزونا كبيرا عن تاريخ مكة المكرمة، لاعتبارات كثيرة، منها أنه كان ملازما لعلية وأعيان أهل مكة المكرمة أمثال الشيخ أحمد زكي يماني، وزير البترول والثروة المعدنية السابق، ومحمد عبده يماني، وزير الإعلام السابق، والشيخ صالح كامل، رحمهم الله جميعا.