عاش الفيلسوف اليوناني أفلاطون في الحقبة التاريخية التي سبقت ميلاد المسيح بأربعة قرون. مدة طويلة جدا تفصلنا عن زمن أفلاطون، تفرض علينا إعادة النظر في حقيقة التراث الأفلاطوني، وحقيقة شخصية أفلاطون نفسه. هل كان فيلسوفا علمانيا أم رجل دين يشرح شريعة سماوية تزامن ظهورها مع عصره، أم كان مجددا دينيا يحلم بعودة الناس إلى نقاء شريعة ما في مجتمع شاع فيه ظهور الفساد والجور؟ فقد كان أفلاطون في العديد من محاوراته يتكلم بلغة المخلص الديني الذي يوجهه الله في كل أفعاله.

أليس البعد الزمني بيننا وبينه أكبر من أن يتيح لنا بناء تصور كامل عنه وعن طبيعة فلسفته؟ أسئلة عديدة تثيرها حقيقة أفلاطون الذي وضع في خانة الفلسفة المقابلة والمضادة للدين، وأصبح وصفه «بالفيلسوف» يجعله ندا وخصيما لرجال الدين. وترجمة اللفظة اليونانية «الفلسفة» بمحبة الحكمة تحتمل تصنيفات كثيرة قد تجعل من أفلاطون فقيها يفسر شريعة ما أو يرغب في تجديدها، كون الحكمة توظف أحيانا توظيفا دينيا.

تقوم الشرائع السماوية على وجود وحي منزل، وحي لا يرضخ لأي صيرورة أو تغير بتغير الزمان والمكان، فعندما نؤمن بشريعة سماوية فإننا نؤمن بصلاحها لكل زمان ومكان، الوحي ثابت لا يتغير بتغير وعي الشعوب، مع أن قانون الحياة هو التغير في كل شيء سواء أكان تغيرا مدركا أو لم يكن كذلك، وعلى أساس الثبات في الشريعة والوحي قامت فلسفة أفلاطون الذي يقول في أحد حواراته: «كنه الوجود الحقيقي التي لا تتعرض على مر الزمن إلى شيء من التغير. يبقى منها ما هو دائما، له نفس ما له من صور. لا تتغير ولا تقبل التحول بتاتا».


قامت فلسفة أفلاطون ونظرية المعرفة الخاصة به على الاعتقاد بوجود عالم المُثُل، عالم الوحدة والثبات والحقائق، عالم قديم لا زمني بعكس العالم المرئي والمحسوس الذي يتصف بأنه عابر وزمني ويخضع لحركة الكون والفساد والصيرورة. وهنا يتبادر للذهن السؤال الهام جدا، ماذا كان يقصد أفلاطون بعالم المُثُل الذي يمثل حجر الأساس في نظرية المعرفة الأفلاطونية؟. يذكرنا عالم المُثُل الأفلاطوني بعصر الوحي أو عصر السلف الصالح في المنهج السلفي، فكلاهما يدلل على وجود حقائق ثابتة في عصر ذهبي يتسم بالنقاء والكمال. عند أفلاطون تكون العودة لعالم المُثُل من خلال الجدل أو الديالكتيك وفي المنهج السلفي فإن العودة لعصر الوحي تكون عبر بوابة اللغة العربية، وفي كلتا الحالتين فإن العودة إلى الوراء لازمة للوصول إلى حالة النقاء الديني التي تبدو تطلعا إلى الأمام أكثر منها عودة للماضي.

نتفق مع الفكرة القائلة «إن وعي الإنسان يتحدد من خلال شروط عصره»، فوعي الإنسان يتغير بتغير الزمان والمكان عبر تتابع حركة الحضارة والتاريخ، من خلال نشوء أشكال جديدة من أنماط الاقتصاد، تتواكب مع حالة النمو والتقدم البشري، وكل مجتمع إنساني يكيف عاداته وتقاليده وأعرافه لتلائم نمط الاقتصاد القائم. لذا نستطيع القول إن التاريخ الإنساني هو مختصر لأشكال مختلفة من الوعي يصنع من خلاله البشر نظمهم الأخلاقية، ويدركون مشاكل الخير والشر التي تنظم حياة المجتمع والناس. ولكن هذا لا يتعارض مع وجود طبيعة ثابتة للإنسانية، لا تتغير ولا تتبدل مع حركة التاريخ، أو تطور الوعي خلال مجرى الزمن.

يقول المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما في كتابه «نهاية التاريخ» الغني عن التعريف: «كل الفلاسفة أو معظمهم... اعتقدوا بوجود شيء ما يمكن أن نسميه (الطبيعة الإنسانية) أي هي مجموعة من السمات ذات الطابع الدائم نسبيا -كالأهواء والرغبات والقدرات والفضائل.. إلخ- التي تميز الإنسان باعتباره إنسانا. في حين أن من الواضح أن الناس كأفراد يستطيعون أن يتغيروا، فإن الطبيعة الأساسية للإنسان لم تتغير مع الزمن، أكان فلاحا في الصين أو نقابيا في أوروبا الحديثة».

نستطيع القول إن تتابع العصور يتزامن مع تغير في الوعي ولكن طبيعة الإنسان تظل ثابتة لا تتغير، لذا فإن الأديان السماوية في الغالب تخاطب الطبيعة الإنسانية الثابتة، وليس الوعي المتغير عند الإنسان الذي يتأثر بتغير أشكال الاقتصاد والمجتمع، وبتطور حركة الزمن. لذلك يمكن القول بأن العودة تجاه زمن الوحي أو عصر السلف الذي تزامن مع نزول الوحي تملك كثيرا من الوجاهة ولها ما يبررها معرفيا. وحسب أفلاطون فإن الفلاسفة وحدهم قادرون على إدراك الأبدي الذي لا يغيره الزمن. فمن هم هؤلاء الفلاسفة وما طبيعة فلسفتهم؟.

تتطور الأفكار والمعتقدات الدينية مع مرور الأزمنة والعصور، ومع تطورها تبتعد عن الأصل والجوهر. وهنا يجب أن نفرق معرفيا بين تجدد المعتقدات وتطورها. فالتجديد لا يؤدي نفس الغرض في حالة التطور (Evolution ) والوحي الإلهي لا يخضع إطلاقا لعملية التطور والصيرورة فهو ثابت ولا زمني. ولكن يتبادر للذهن سؤال هام جدا، كيف يمكن تجديد الفكر الديني أو الإصلاح الديني؟. التجديد ممكن ويختصره لنا المفكر المغربي محمد عابد الجابري في الأسطر القليلة: «الدين بالتعريف، وحي إلهي لا يخضع للتطور والتجديد بهذا المعنى، وإنما الذي يتطور ويتجدد هو فهم الناس له، وذلك يكون بالرجوع إلى ينابيعه الأولى ومحاولة بناء فهم جديد لها يساير العصر والتطور. ولما كانت اللغة العربية مرتبطة بالدين لنزول القرآن بها. ولما كان التجديد في الدين والاجتهاد فيه يتطلب الرجوع إلى القرآن أولا، فإن تجديد اللغة، أي الرجوع بها إلى أساليبها الأولى في الفصاحة والبيان أمر ضروري للتجديد في الدين نفسه».