بعيدا عن نظرية (النص الولود الودود) تشرفت بحضور محاضرة في قسم اللغة العربية وآدابها في إحدى الجامعات العريقة، وزع الباحث وريقات صغيرة على الحضور، مكتوب عليها جزء من قصيدة رائعة للشاعر الأندلسي ابن خفاجة يصف فيها جمال الطبيعة الأندلسية الخلابة. وكانت الدراسة القيمة تبحث عن الجوانب البلاغية في القصيدة من خلال علم اللغة الإدراكي، ولكن الباحث الكريم نسي أن يرفق أشعة مقطعية لجمجمة ابن خفاجة لنتعرف على أقسام الدماغ، وأين مصدر اللغة في الدماغ الذي أخرج لنا هذه القصيدة المفعمة بمشاعر الحب والهيام، وما الهرمون الذي يفرزه الدماغ المسؤول عن الحالة الإبداعية أو المتلازمة الذكورية، إن صح التعبير، التي تعتري الشاعر عند وصفه مفاتن معشوقته؟ فالحديث عن علم الإدراك يستوجب استحضار نظام الأعصاب المركزي ومركزه الدماغ، وهو شبكة معقدة جدا تتكون من مئات المليارات من الوحدات العصبية لمعالجة المعلومات اللغوية، ولا أظن أن أقسام اللغة العربية وآدابها أو أقسام الأدب الإنجليزي أماكن مناسبة لإجراء مثل هذه الدراسات عن العلاقة الجدلية بين اللغة والدماغ.
تذكرت أحد الأخبار الصحفية المتعلق بدراسة علمية حديثة أجراها اثنان من الباحثين، وتؤكد هذه الدراسة أن إحدى القنوات الإخبارية المعادية تكذب بنسبة 85% وقد توصلا لنتائج دراستهما البحثية التي استغرقت ستة أشهر باستخدام تقنيات البيانات الضخمة (Big Data)، يقول الباحث المخضرم، وهو أحد منسوبي قسم اللغة العربية وآدابها، أنه توصل لهذه النتيجة العلمية الدقيقة بسبب اعتماده على آليات رصينة في مجال البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي. وبطبيعة الحال نحن نتفق مع الباحثين الكريمين أن هذه القناة الإخبارية المعادية تكذب وتكذب كثيرا، ولكن لماذا تكذب بنسبة 85%، وليس بنسبة 95% مثلا؟
عالم اللسانيات العربية زاخر بمثل هذه القصص العلمية المسلية التي تقدم بطابع علمي وبصبغة رياضية وبقليل من شعوذة بلاغية تجعل ما يطرحونه يبدو علميا في ظاهره. طبعا لا يحتاج ذلك إلى درجة علمية في اللسانيات لتكتشف العلم الزائف هنا بنفسك، وللأسف فإن مثل هذه الدراسات والنظريات تقوض بصورة منهجية فهم الطلاب لجوهر طبيعة الأدلة العلمية وتكرس للاستعمال السيئ للعلم والطريقة العلمية، فهؤلاء اللسانيون العرب لم يختبروا أي فكرة بأنفسهم أو يروا نتائج الاختبار بأعينهم، ولم يفكروا بعناية حول ما تعنيه هذه النتائج بالنسبة إلى الفكرة التي يختبرونها. فالعلم بالنسبة إليهم سلطة أكثر من كونه أسلوبا لتقصي الحقائق.
ولو تعاملنا مع كثير من أطروحات اللسانيين العرب، التشومسكيين منهم على وجه الخصوص، وفق شروط العلم بصورته النقية فكثير من هذه الدراسات والأطروحات ستخرج من دائرة العلم وتوضع في خانة النقيض والمقابل للمعرفة العلمية. والسؤال البديهي هنا: لماذا يشغل طلاب البحث والدراسات العليا بمثل هذه الدراسات، وما النتيجة المرجوة من تضييع سنوات الطالب الدراسية في دراسة النحو التوليدي واللسانيات الإدراكية؟ هل ستحقق رؤية ورسالة وأهداف قسم اللغة العربية بعد أن تحولت هذه الدراسات اللسانية إلى أيديولوجيا تزدري التراث واللغويات العربية.