يقصد «ديورانت» بـ«الكتب المقدسة» هنا القرآن الكريم على وجه الخصوص، وما أرتبط به من موروث ضخم ودراسات متشعبة، تتمحور حول النص القرآني، حيث تأثرت حركة الإصلاح الديني في أوروبا بالنص القرآني بشكل أو بآخر، عبر دعوتها إلى إصلاح الكنيسة، وتخليصها من الشوائب والممارسات الخاطئة، والعودة إلى نقاء الإنجيل وبساطته. ولعل الحديث عن التخلص من الشوائب العقدية، والعودة إلى نقاء العقيدة وبساطتها، يحيلنا إلى مفهوم «البدعة الشرعية»، كونها مفهوما سلفيا محضا، بالإضافة لتعزيز دور «النص» الذي لعب دورا مهما في عملية الإصلاح الديني في أوروبا، من خلال إصرارها على أن يكون الإنجيل وحده - لا البابا ولا التقليد المسيحي المتوارث - هو المرجع الأعلى في الشؤون الدينية، كما يعتقد «ديورانت».
تعزيز مكانة النص الديني لها جذور عميقة في الموروث الديني بالثقافة العربية الإسلامية. كما كان له دوره الحاسم في زمن الإصلاح الديني، حيث كان للنص الديني مكانة كبيرة فيما يعرف بـ«عصور التنوير والإصلاح الديني» في أوروبا، بدليل أن الراهب مارتن لوثر، المثير للجدل، كان يؤكد أن الكتاب المقدس مرجعه الأخير للعقيدة وأداء الشعائر. وفي محاكمته الشهيرة، وافق على سحب أي فقرة إذا ثبت أنها تخالف ما جاء في الكتاب المقدس، وهذا ما يجعلنا نعتقد أن لاهوت مارتن لوثر قام أساسا على التصديق بحرفية ما جاء في الكتاب المقدس.
ورفض مارتن لوثر «صكوك الغفران» كان يستند فيه على النص الصريح لا غير، حيث عزا كل الانحرافات العقدية في العالم إلى فساد رجال الكهنوت الذين اخترعوا قصص وحكايات خرافية من إبداع البشر وليس الكتب المنزلة. وحسب «ديورانت»، فإن هجوم مارتن لوثر على الأسس النظرية لـ«صكوك الغفران» كان دافعه الرئيس العودة بالكنيسة إلى تعاليم الإنجيل، وصفاء الإيمان الرسولي في أيامها الأولى، ونبذ التقاليد والإضافات المحدثة، وهذا لا يكون إلا من خلال النص المنزل لا غير. على هذا الأساس، قام المنهج السلفي عند المسلمين الذي يدعو إلى تعزيز مكانة النص، وعدم التسامح مع ظاهرة «البدع الشرعية»، والعودة بالشريعة لعصر السلف الذي يمثل بالنسبة لهم عصر النقاء الديني. يقول «ديورانت» عن «إصلاح زونجلي الديني»، و«زونجلي» هذا أحد رجال الدين المتأثرين برسائل مارتن لوثر: «كلما ازدادت ثقته اشتد قناعة بأن المسيحية يجب أن تعود إلى بساطتها الأولى في النظام والعبادة. ولقد استفزته ثورة لوثر ورسائله ورسالة هس عن الكنيسة، فما أن حل عام 1520 حتى كان يهاجم علنا الرهبانية والمطهر والتوسل بالقديسين، وبرهن أكثر من هذا على أن دفع ضرائب العشور للكنيسة يجب أن يكون بمحض الاختيار، كما جاء في الكتاب المقدس».
هل تأثرت عملية الإصلاح الديني في أوروبا بالنص القرآني والدراسات الفقهية المتعلقة بنبذ البدع الدينية، وأهمية العودة لعصور السلف؟. قامت حركة الإصلاح الديني على ثلاثة محاور، تمثل جوهر المنهج السلفي، ونستطيع استنتاجها من بحوث «ديورانت» التاريخية، وهي أن حركة الإصلاح قامت على تعزيز دور النص أولا، والعودة للعصور الأولى للشريعة الدينية ثانيا، وأخيرا رفض أي محدثات واختراعات بشرية، انطلاقا من الفهم الصحيح للنصوص المقدسة والكتب المنزلة.
مناهضة «لوثر» وأبناء عصره «صكوك الغفران» مبنية على قناعة أنه ليست ثمة واسطة بين الله والإنسان، فالإنسان ينال خلاصه بالإيمان وحده، ودون أي وسيط، والعلاقة المباشرة بين الخالق والمخلوق أخذت حيزا كبيرا في حقل الدراسات المعنية بتفسير الآيات القرآنية المتعلقة بتوحيد الألوهية والممارسات الدينية المؤدية إلى الشرك عند السلفيين، التي ألقت بظلالها على وجدان المصلحين والمثقفين الكبار في حقبة الإصلاح الديني. يقول المفكر المغربي محمد عابد الجابري: «إن الترجمات التي نقلت معاني القرآن إلى اللغات اللاتينية، ثم إلى اللغات الأوروبية الإقليمية، قد وظفت أيضا ضد رجال الدين المندمجين في نظام الكهنوت، فأصبحت عنصرا أساسيا في الصراع ضد الكنيسة، وهكذا سارع الإنسانيون، وهم فئة ناشئة من المثقفين الذين كانوا يفكرون ويعملون خارج نظام الكنيسة وضدا عليها، إلى توظيف ترجمات القرآن، للاستعانة بها في تعزيز موقفهم، ونشر ثقافة جديدة تعتبر الإنسان غاية في حد ذاته، وتعلي من شأنه كفرد حر لا يحتاج في تعامله الديني، عقيدة وسلوكا، إلى وسيط آخر».