إن كان من مكاسب لهذه الأزمة التي أرهقت سكان غزة خلال العشر الأواخر من رمضان المبارك، وحرمت أطفالها وشبابها من الاستمتاع بعيد الفطر المبارك بعد أن قضوا تلك الأيام في خوف ورعب، فهي عودة الدبلوماسية العربية إلى فرض نفسها بقوة على المشهد السياسي العالمي، وإرغام العالم على الاستماع لأصواتنا واحترام مطالبنا، حيث توحدت الرؤى على تقديم الدعم الكامل للأشقاء في فلسطين، وتحدث العرب بلسان واحد وحملت لهجتهم معاني مشتركة، مما كان له أكبر الأثر في إصغاء الآخرين لهم بكل احترام وتقدير.
هذا الموقف العربي والإسلامي القوي يحمل في طياته تأكيدا على أن العرب قادرون على صيانة حقوقهم والاحتفاظ بمكانتهم إذا ما استمروا على هذا النهج، وابتعدوا عن الخلافات الجانبية، وتجاوزوا التباين في وجهات النظر، وتمسكوا بتقديم مصالحهم العليا على المكاسب الحزبية والإيديولوجية الضيقة.
من أبرز ما يعزز ما ذكرت هو أنه عندما حدث الاختلاف بين الرؤية العربية الموحدة والموقف الأمريكي الداعم بطبيعة الحال لإسرائيل، بعد أن عرقلت إدارة الرئيس جو بايدن، ثلاث مرات، المساعي الدولية الرامية إلى حمل مجلس الأمن الدولي على إدانة الغارات الإسرائيلية التي دمرت المواقع المدنية وانتهكت القوانين الدولية وقتلت الأطفال والنساء. عندها لم يكن أمام دول المجموعة العربية سوى التهديد باللجوء إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة التي عقدت اجتماعها الخميس الماضي.
هذا الموقف الواضح دفع الإدارة الأميركية إلى الهروب من شبح العزلة الذي يطاردها، والتجاوب مع الجهود العربية وإرغام حكومة نتنياهو على وقف إطلاق النار، في سابقة أكدت أن بإمكان العرب الدفاع عن أنفسهم بالوسائل الدبلوماسية والقانونية المتاحة، وفرض رؤيتهم وحفظ مصالحهم.
حتى البيان الأخير الذي أصدره مجلس الأمن في اجتماعه الثالث حمل إضاءات لافتة لا تخفى على المتابعين، عندما تمسك بضرورة عدم إجراء تغييرات جوهرية في القدس، واحترام الوضع التاريخي القائم في الأماكن المقدسة، وحق المسلمين في الصلاة بسلام داخل المسجد الأقصى، والاعتراض على محاولات إسرائيل لإخلاء عائلات فلسطينية من منازلها التي عاشت فيها لأجيال في حيي الشيخ جراح وسلوان في القدس الشرقية.
كما أعاد البيان حل الدولتين إلى واجهة المشهد السياسي من جديد، وهو ما أكد عليه الرئيس الأمريكي الذي وصفه بأنه «يتسق مع قرارات مجلس الأمن ذات الصلة، بحيث تعيش إسرائيل ودولة فلسطينية مستقلة وديمقراطية وقابلة للحياة وذات سيادة، جنباً إلى جنب بسلام وضمن حدود معترف بها»، وهو ما يعني بشكل واضح تنفيذ متطلبات المبادرة العربية.
الموقف السعودي القوي لم يقف عند حدود إقرار الهدنة ودخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، بل تواصل بتأكيدات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله - للرئيس الفلسطيني محمود عباس على استمرار الدعم السعودي للفلسطينيين، سياسيا واقتصاديا وشعبيا، إضافة إلى توجيهه لوزارة الخارجية بالوقوف إلى جانب الحق العربي في كافة المحافل الإقليمية والدولية.
ويبرز هنا ما قاله وزير الخارجية فيصل بن فرحان، في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بأن السعودية ترفض إجراءات إسرائيل التي تسعى لطرد الفلسطينيين من القدس الشرقية، وأن الاعتداءات عليهم تمثل انتهاكا للمواثيق الدولية. مشددا على أن قضية فلسطين أساسية ومركزية، وأن حل النزاع يكمن في تنفيذ بنود المبادرة العربية للسلام.
هذا الدور السعودي المصري الإيجابي في منع تصعيد الأمور إلى الأسوأ والدفع باتجاه التهدئة والتصدي لتجاوزات حكومة الاحتلال قوبل بإشادات وسائل إعلام غربية، إضافة إلى الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، وأهم من ذلك التقدير الشعبي الواسع، عربيا وإسلاميا ودوليا.
وبعيدا عن حسابات الربح والخسارة، فإن التصرفات الإسرائيلية خلال الحرب، ومحاولات استعراض القوة على حساب القوانين الإنسانية، والوحشية التي اتسمت بها عملياتها، واستهدافها المتعمد للمدنيين، أسهمت في تعرية الاحتلال بشكل كبير أمام الرأي العام العالمي الذي رأى بوضوح الدور السالب للمستوطنين المتطرفين، ووقوف حكومة نتنياهو بجانبهم في محاولاتهم لتشريد السكان العرب من منازلهم.
أما تصريحات رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، التي قال فيها إن جهود إعمار غزة سوف تعتمد على «أهل الخير من الدول العربية» فهي صحيحة في ظاهرها، لكن المؤسف أنها أتت بعد أن تقدم في وقت سابق بالشكر لإيران لتوفيرها السلاح للفلسطينيين، وكأنه يريد أن يقول للعرب إنكم مجرد بنوك نستمد منها المال لإعادة الإعمار، وهذا بالطبع ما لا يمكن أن نرضى به، فالعرب دبلوماسية ناجحة وسياسة رصينة ومواقف واضحة، تنأى عن التحريض وتبتعد عن التصعيد وتتمسك بالمطالبة بالحقوق وفق القوانين الدولية.
أخيرا بقي القول إن هذا النجاح الدبلوماسي العربي ينبغي أن يتواصل ويستمر وأن يتم تعزيزه عبر المزيد من التنسيق واتحاد الكلمة والتكاتف، لأن الوحدة هي أبرز عوامل القوة، وقد جربنا كثيرا في السابق كيف أن التنافس والتشرذم والشتات يهدر حقوقنا ويضيع مكاسبنا ويرغمنا على البقاء في مقاعد المتفرجين لننتظر الآخرين يقررون مصيرنا ويتخذون القرارات التي تخصنا.