وبعكس الريف أو القرية أو حياة البادية، فإن الحالة الإنسانية داخل هذه المجتمعات أقرب للبساطة والسطحية، حيث لا تعقيدات تتفاعل داخل مجتمعاتها البسيطة، بينما المدينة بما تحتويه من البشر، فيها من التنوع والتعقيد وتناقضات الخير والشر، والعلاقات المتشابكة والمعقدة بين الناس، ما يجعلها قادرة على توليد رواية متكاملة الأركان. فحياة الريف الخالية من التعقيد قد لا تبدو بيئة مناسبة لخلق أحداث روائية مكتملة، واحتواء الصراعات الجديدة التي أفرزها المجتمع الحديث. مسرح الريف يعجز عن مسايرة وطأة الزمن المتسارع وأحداثه المتتالية وأمكنته وفضاءاته المتعددة الناتجة عن التحولات الاقتصادية والحضارية الكبرى التي مرت بها البشرية.
مقاربة أشكال الحياة التي باتت تفرزها المدن الحديثة، من مشاكل وطرائق عيش أنتجتها أنماط اقتصاد معقدة، صنعت علاقة جديدة بين الأديب والمدينة، فالمدينة اليوم هي ملاذ الأديب لتفريغ همومه وتطلعاته المستقبلية، والتعبير عن اغترابه عن ذاته وعن مجتمعه، وكيف أن المدن الصناعية استلبت الإنسان وساهمت في تجريده من آدميته، وحولته إلى ما يشبه الآلة بسبب نمط الحياة الذي باتت تفرضه على ساكنيها. فكانت الرواية -تحديدا- دون بقية الأجناس الأدبية، المرآة الحقيقية التي عكست لسكان المدينة دقائق حياتهم بالألوان حتى أصبحوا عرايا أمام حقيقتهم البعيدة كل البعد عن طبيعتهم، بكل ما فيها من عيوب وخبايا مخجلة.
وفرت المدينة بما فيها من علاقات إنسانية معقدة المادة الخام لنشوء الرواية، ومن هنا نستطيع القول إن نشوء المدن كان المحرض الأول لنشوء فن الرواية، بعد أن عجزت الأجناس القديمة كالملاحم والقصائد الحماسية لأبطال الحرب وقصص الجدات المحكية، في التعبير عن كل أزمات الإنسان في المدن الصناعية الحديثة، وعن مواكبة وتيرة أحداثها المتسارعة.
الملحمة باعتبارها جنسا أدبيا قديما، النوع التعبيري المناسب لدرجة تطور الوعي في البادية أو القرية أو الريف، ونمط اقتصاده البسيط غير المعقد الذي يعكس بساطة الحياة والوعي والنظرة للكون والحياة، فالريف ليس المكان ولا الزمان المناسب لخلق أحداث روائية متشعبة ومركبة، وحتى الروايات الحديثة التي تدور أحداثها داخل مجتمع الريف، استعارت مشاكل المدينة وهي تبني أحداثها في الريف، فالرجل والمرأة والأسرة والمعتقدات والعادات والتقاليد في الريف ليست كما هي في المدينة.
لا يمكن للريف أن يبني أحداثا متكاملة دون أن يتبنى مشكلات المدينة، ويوظف صخبها ومآسيها قسرا في رحابه الواسعة، فحياة الريف الهادئة ورتمها البطيء وأسلوب الحياة الطبيعي المعبر عن براءة أهله وبساطة تفكيرهم، لا يستطيع خلق أحداث مشوقة تعبر عن الحياة المستلبة لأهل المدينة، وسط أكوام البنايات الضخمة التي يشعر معها الإنسان بصغر حجمه وضآلته، أمام مدن غير مؤنسنة، فاقمت حالات الاستلاب والاغتراب التي تعتبر أعراضا جانبية لعيشنا المستلب داخل أسوار المدن الصناعية.