المشكلة عندنا هو أنه كان من السهل إضاعة فرصة التسلية، وارتكاب الحماقات واللهو، لم تكن هذه الفرص منتظرة إلا إذا سعت إليها بنت عمي شامة وعمتي حبيبة، وحتى في هذه الحالة كانتا تصادفان صعوبات عدة، ذلك أن حلقات حكي عمتي حبيبة ومسرحيات شامة، كانت تعرض بالضرورة في الطوابق العليا، ولم يكن بالإمكان إطلاقا الاستمتاع حقا بها في وسط الدار، الذي كان مكانا عموميا. ففي الوقت الذي يحلو فيه الجو ويسود المرح، يصل الرجال ليتحدثوا عن مشاريعهم، ويخوضوا في مناقشات مهنية، أو يستمعوا إلى الراديو ويعلقوا على الأخبار. يشرع الصغار في لعب الورق، أما الأكبر سنا فيمارسون لعبة الشطرنج، وكنا نحن مجبرين على إخلاء المكان. كل تسلية ذات قيمة تتطلب التركيز والصمت حتى يمارس قائد الحفل سحره، سواء تعلق الأمر بالحاكي أو الممثلين.

من المستحيل بعث هذا السحر في وسط الدار، التي يرتادها عشرات الأشخاص طيلة النهار، يثبون من حجرة لأخرى، أو ينبثقون من الدرج أو يتنادون من الطابق السفلي إلى الأعلى. من المستحيل أيضا بعث أي سحر حين يتحدث الرجال في السياسة، أو يستمعون إلى الراديو، أو يقرأون الصحف الوطنية والدولية. كانت نقاشات الرجال دائما مشحونة، وإذا ما استمع الإنسان إلى ما يقولون يخيل إليه بأن نهاية العالم وشيكة.

تقول أمي بأننا لو صدقنا الراديو وتعليقات الرجال، لكانت الكرة الأرضية قد اختفت منذ زمن بعيد. يتحدثون عن الألمان، جنس مسيحي سمعنا به أخيرا ضرب الفرنسيس والإنجليز علقة، كما يتحدثون أيضا عن قنبلة أطلقها الأمريكيون على اليابان، وهم شعب آسيوي قريب من الصين. لم تتسبب تلك القنبلة في مقتل آلاف الأشخاص فحسب، ولكنها محت غابات بأكملها من على وجه الأرض. أغرقت الأخبار المتعلقة بهذه القنبلة أبي وعمي عليا، وأبناء أعمامي الشباب في متاهات من اليأس، ذلك أن النصارى الذين أطلقوا قنابلهم على الآسيويين البعيدين عنهم، لن يتوانوا عن ضرب العرب الذين تفصلهم عنهم مسافة أقل.


كنت أنا وسمير شغوفين بنقاشات الرجال السياسية، لأنه كان مسموحا لنا حينها بالدخول إلى قاعتهم والانضمام إليهم، كان أبي وعمي يبدوان مرتاحين في جلستهما وسط الشباب، أي مجموعة المراهقين والعزاب، الذين كانوا يقيمون في البيت. وكثيرا ما كان أبي يمزح معهم بشأن بذلاتهم الغربية الضيقة، وهو يقول بأن عليهم أن يأتوا بالكراسي ليجلسوا عليها، والكل كان يكره الكراسي الغربية، لأن الفراش المغربي مريح للغاية. كنت أجلس في حجر والدي، وكان عمي علي يجلس القرفصاء على الفراش الأكبر وهو يرتدي جلبابه وعمامته البيضاوين، ويحمل ابنه سمير الذي يرتدي شورتا إنجليزيا، على ركبتيه. كنت ألتصق بوالدي في فستاني الفرنسي الجميل الأبيض والقصير جدا، المزين بأشرطة من الساتان في الخصر. كانت أمي تصر على أن تلبسني آخر صيحات الموضة الغربية، أي فساتين قصيرة ذات أشرطة ملونة، وأحذية سوداء لامعة، وبما أنها تغضب إذا ما اتسخ الفستان أو تشابكت أشرطته، فقد كنت أرجوها أن تدعني ألبس سروالي المريح، أو أي زي تقليدي آخر لا يتطلب كل ذلك الحرص. ولكنها لم تكن تسمح لي بارتداء القفطان إلا يوم الأعياد تحت إلحاح أبي الشديد، لأنها مصرة على أن تراني متحررة من التقاليد «إن مشاريع المرأة تنعكس على طريقتها في اللباس، إذا كنت تودين أن تكوني عصرية عبري عن ذلك من خلال ما ترتدينه. وإلا ستجدين نفسك محاصرة وراء الأسوار. من المؤكد أن جمال القفطان لا يعادل، ولكن الفساتين الغربية رمز للعمل الذي تتلقى عنه المرأة مقابلا»،. وهكذا ربطت في ذهني الصغير القفطان بترف الأعياد، والعطلة والطقوس الدينية وروائع أسلافنا، أما اللباس الغربي فقد ارتبط لدي بالمشاريع العملية والأعباء المهنية المملة. كان والدي يجلس في القاعة المخصصة للرجال مقابل عمي على الفراش المجاور للراديو، حتى يتمكن من ضبط المحطات التي يشاء الاستماع إليها، وكان الرجلان يرتديان جلبابين أحدهما شفاف من الصوف الرقيق، الذي صنع بمدينة وزان المشهورة بنسيجها، أما الجلباب الداخلي فهو من ثوب متين، كان والدي يضع عمامته الشامية الصفراء ذات الثوب المطرز، وهي من الأشياء النادرة التي يخرج فيها عن الزي المغربي الأصيل، لقد سمعته يتوجه ذات يوم إلى أبناء عمي الجالسين حوله وهو يمازحهم: «ولكن ما هو مستقبل زينا التقليدي وأنتم جميعا ترتدون زيا كـ «رودولوف فالنيتينو؟» والواقع أنهم كانوا جميعا يرتدون البذلات الأجنبية، رؤوسهم حاسرة وشعرهم قصير، يشبهون الجنود الفرنسيين الواقفين في زاوية الدرب إلى حد كبير«سننجح لا محالة يوما في طرد الفرنسيين، لكي ندرك بعدها بأننا جميعا نشبههم» حسب قول عمي.