أصبحت الانتخابات الأمريكية مختبراً حقيقياً لكل أدوات الدعاية وأساليب الحملات الإعلامية، ومجالاً لطرح فرضيات ونظريات تهتم بكيفية كسب الجماهير والرأي العام، وتحرك سلوكهم واتجاهاتهم وأفعالهم نحو صناديق الاقتراع للفوز بأصواتهم في الانتخابات.

وفي اعتقادي أن الانتخابات الرئاسية القادمة بين ترمب وبايدن ستشهد أساليب جديدة وأدوات متغيرة، من حيث الأسلوب والمضمون الإعلامي. وعلى الرغم من أن المرشح ترمب ليست له علاقة مستقرة وجيدة مع وسائل الإعلام، التي تعتبر إحدى أقوى منصات توجيه الرأي العام، إلا أنه ما زال يروج لخطابه ودعايته بشكل قوي، باعتباره الشخص القوي والأصلح لرئاسة أمريكا، وهو الشيء نفسه عند انتخابه لأول مرة، فلم يكن يحظى دونالد ترمب بشعبية وجمهور لدى الصحف الأمريكية، حيث وصفته واشنطن تايمز بأنه شخص معيب، وأقرت بأنه «فظ وسوقي»، كما أن من بين الصحف المئة الأوسع انتشاراً في أمريكا، لم يحظَ المرشح الجمهوري سابقاً سوى بتأييد اثنتين، وبينما أيد أكثر من 200 صحيفة منافسته آنذاك كيلنتون. حتى بعض هذا الدعم لترمب لم يكن ذا تأثير بشكل قوي، ومباشر فكان من بين التعليقات تلك ما ورد في صحيفة «فورت واين نيوز سنتنيل» تحت عنوان: «شكراً للرب على مايك بنس (نائب الرئيس المنتخب)، لكنه تفوق على منافسته. ما يهمني في هذا السياق هو ما رآه بعض الباحثين والخبراء، في أن وسائل الإعلام التقليدية والحديثة من وسائل التواصل الاجتماعي قادرة على «برمجة الجمهور وإعادة صياغته عن طريق غرائزه ودوافعه»، وبالتالي فهي قادرة على تحويل الجمهور إلى «تابع» قابل للتصديق، خاضع للتأثير، موضوع للتحكم، وهذا ما يطلق عليه اسم استراتيجية «الخريطة الإدراكية»، وهي المسؤولة بشكل كبير عما يراه الإنسان في هذا الواقع، فهي تستبعد وتهمش بعض التفاصيل فلا يراها الجمهور. استراتيجية الخريطة الإدراكية تعتمد على ثلاثة مسارات مختلفة للتعامل مع الإعلام الدعائي للجمهور، وهي»التوظيف، والتعديل، والتنميط». فعن طريق تحليل الخريطة الإدراكية للجمهور، يمكن صياغة الرسالة الإعلامية بحيث تتناسب مع تلك الخريطة، لتكون أكثر تأثيراً وحضوراً، ولكي تتحقق فاعلية هذه المسارات الثلاثة، تم تطوير وتغيير توظيفها، حيث كانت في السابق تستخدم في انتقاد البرامج الانتخابية والخطط التي تقدم، وفي اهتمامات الجماهير وكيفية طرحها، وكيفية علاج مشاكل المجتمع، أما مع هذه الانتخابات فقد ركزت منذ بدايتها على مسار توظيف الإخفاق من خلال الهجوم الشخصي على المرشح، وعلى مستوى قدراته في إدارة البلاد، وهذا الأمر قد يكون من ضمن الفرضيات التي يراهن على نجاحها المرشحون. ففي مقابلة لترمب مع شبكة «فوكس نيوز» الأمريكية، قال إن على جو بايدن أن يخضع لنفس الاختبار المعرفي الذى أجريته أخيراً، لأن قيادة الولايات المتحدة تحتاج لشخص حاد الذكاء، مضيفاً أن «الرئاسة تتطلب القدرة على التحمل والصحة العقلية، كما اتهم بايدن الرئيس بإثارة الانقسامات العرقية وقال «لسنا في عام 1950، والعنصرية لم تعد تنجح. سكان الضواحي مندمجون مع بعضهم البعض إلى حد كبير». هذا التطور في الأساليب يحاول أن يقنع الجماهير منذ البداية بأن البرامج والخطابات ليست هي الفيصل في كسب الجمهور، وإنما هل الشخص مؤهل بالأساس لهذا المنصب أم لا من خلال توظيف سجله التاريخي وأفعاله الماضية.

وأيضاً من خلال التغريد واستخدام جميع الوسائل وتوظيف كل الأحداث في سياق الصراع بين القوي والضعيف، وارتباط ذلك بقدرات كل شخص، خصوصاً في أوقات الأزمات.


أما المسار الثاني فهو تعديل الخريطة الإدراكية للجمهور فإن الإعلام الموجه يسعى إلى تعديل النظام الإدراكي بصورة مستمرة من خلال ترسيخ بعض المزاعم وتحويلها إلى مسلمات، لإعطاء صورة غير حقيقية ومضللة عن الواقع، فتجد أن المرشحين يحاولون إغراق الجمهور بمعلومات قد تكون كاذبة تجبره على تغيير تصوره عن الواقع، وعن سياسة المرشح كما هو في الحقيقة، ليستبدله بصورة أخرى مضللة ومشوشة ليسهل عليها في ما بعد الانقياد.

المسار الثالث هو تنميط الخريطة الإدراكية من خلال توظيف الإعلام ووسائل التواصل، في إعادة تشكيل مفاهيم الجماهير لمفهوم الاستقرار ومفهوم السبب، والنتيجة وقد نرى ذلك جلياً في تصريحات ترمب عندما سُئل عن الانتقال السلمي للسلطة إذا خسر الانتخابات فقال: إذا لم أفُز فإنني سأمضي قدماً وأفعل أموراً أخرى»؟! فمفاد رسالته أن ترمب هو الاستقرار والقوة.

الانتخابات تعتبر في بدايتها، وسيتم استخدام بعض النظريات القديمة والحديثة، الهدف منها معركة كسب الأصوات للوصول للرئاسة.