لماذا تفشل النخب في محاورة الجماهير وكسب ثقة الشعوب أثناء الأزمات؟ لا أزعم أني لدي الإجابة لهذا التساؤل، لكنه جدير بالطرح والمناقشة والاستفادة منه، والسبب في ذلك خروج النخب المثقفة عن إطار الصورة التي رسمت لها في عقول الجماهير، والمتمثلة في أنهم الملهمون المرشدون، ومهندسو النهضة والنمو للشعوب، فهل هؤلاء النخب كانوا يمارسون وظيفة المثقف والمفكر والفيلسوف والمخطط، وبالتالي جاء تصنيفهم بأنهم نخب؟ أم هم فعلا يملكون المعرفة والحقيقة التي هي الحكمة وما يبحث عنه الجمهور، ويكون متعطشا لها؟ فهم صمام أمان للمجتمع، لأن الجماهير دائما ما تكون متحمسة للعلوم والمعارف. الأحداث في سورية ولبنان والعراق، والدور الذي قام به من أطلقوا على أنفسهم أنهم نخب، أوضح لنا أن مفهوم النخبة ما كان إلا وظيفة إدارية لها مهام محددة تختلف باختلاف الأدوار التي يقومون بها، وقد تبين ذلك جليا أثناء أزمات ما أطلق عليه اسم الربيع العربي، حيث لم تستطع تلك النخب تحقيق أي شيء فاعل وواضح للجماهير، وإنما زادت بعض تلك (النخب) الأمور تعقيدا، فخلقت نوعا من الضبابية للدور المأمول منها، خاصة في ما يتعلق بالجماهير، وكان بعضهم ربطت ممارسته وتطلعاته إلى السلطة والأطماع السياسية، وتشكيل الأحزاب، وبناء البرامج، وتغيرت منطلقاته الفكرية والمبادئ التي كان يدعو لها بمجرد ما تغير وضعه الوظيفي، وصحب ذلك تغير في البوصلة الأساسية التي كان ينبغي عليه القيام بها، وتسبب ذلك في حصول قطيعة بين هذه النخب وبين الجماهير، هذا إذا افترضنا أنه كانت لها جماهير. وقد زاد في تأكيد هذه القطيعة ازدواجية الخطاب المعلن لغالبية النخب، والذي يمارس على الجماهير. مفهوم النخبة وتحديد النخب المثقفة التي لها أدوار أساسية متمثلة في توجيه الجماهير وبناء الوعي الحر لها، غير المعلب، وصولا إلى خلق نوع من الاستقرار المجتمعي. من أجل ذلك كان يلزم على المثقف معرفة أساس عقلية الجماهير حتى لا يفشل في استقطابها، وكيف أنها قد تنقلب بشكل سريع بمجرد أن تشعر بأن من كانت تتبعه اختلف أسلوبه والمنهج الذي كان يتبعه، فعقلية الجماهير وسلوكها كتب عنها كثير من العلماء، كان من أبرزهم الفرنسي غوستاف لوبون، حيث بين أن أفكار الجماهير تنقسم إلى فئتين: الأولى فئة الذين يتبنون الأفكار الأساسية: وهي تلك التي تُقدم لها البيئة والوراثة والرأي العام استقرارا كبيرا، كالأفكار الدينية القيمية الموجودة لدى الشعوب على سبيل المثال لا الحصر، فعندما تتبناها شخصية معينة ويتحدث بمقتضاها، أو يصبغ نفسه بها، تصبح بمثابة العباءة التي لا يمكن أن تتغير بين يوم وليلة، فهي المهيمنة على الفرد داخل اللاوعي، وتشبه حديدا يصعب صهره بشكل سريع، فاستخدام هذا الأسلوب يجعل المثقف يحصل على جواز لعقلية الجماهير ويؤثر فيها، بل إن من أبجديات هذا الأسلوب هو صناعة النماذج التي تتبع، فمن يمتلك هذا الأسلوب يجعل من نفسه نموذجا، ويخلق له أتباعا يتأثرون بما يطرح ويمارس. أما الفئة الثانية فهم من يحملون الأفكار الثانوية، وهى الأفكار التي تتشكل تحت تأثير اللحظة، فتكون أفكارا عابرة، ومثال ذلك الانبهار بفرد على اعتبار أنه من النخبة المثقفة، فيقوم بطرح مشروع ما أو فكرة، فتكون تلك الأفكار كالطيور المهاجرة التي ما إن تحط في مكان حتى تستعد للانتقال إلى مكان آخر، فلا يمكن أن ترسخ في عقلية الجمهور، أو أن تؤثر فيه، بل حتى وإن تبنته الجماهير فسرعان ما سينقلب عليها، أو تفشل في إقناعهم بأفكار أن النخب الثابتة على رأي في مصلحة المجتمع، هي من تكون لها الغلبة، وهي من تفرض نفسها في قاموس المجتمعات، وهي من تعشقها الجماهير.