تسعى الحكومات في جميع دول العالم إلى تنمية المناطق والمدن وتطويرها وبناء عجلة النمو الحضاري والتنموي، وتبني الإستراتيجيات والخطط التي من شأنها أن تغير الوضع القائم، ولكن تصادف هذه الخطط بعض التحديات التي تعوقها وتكون سبباً لعرقلتها، أو تغير مسار الهدف الذي من أجله وضعت هذه الخطط والأهداف، ويكون ذلك على حساب الوقت والمال والجهد.

ومن بين تلك المشاكل التمدن غير الملائم للبنى التحتية الأساسية، وكذلك الأحياء الفقيرة والعشوائية والجهل وتأجيل تنفيذ الإصلاحات لتحسين الحوكمة المحلية، والدور الهامشي الذي يضطلع به المجتمع المحلي ومؤسسات الدولة، إضافة إلى المشاكل البيئية التي لا يتم التعامل معها بشكل ملائم، والديناميكيات الاجتماعية التي تشكل عوائق في وجه الممارسات الراهنة، والرفض التام لمفهوم التغيير والتطور، وهذه أحد أهم المعضلات الكبرى التي تعاني منها كثير من دول العالم الثالث وأخص بها - الدول العربية -، من أجل ذلك تسعى هذه الدول إلى البحث عن الحلول النافعة التي تصنع التغيير.

أحد الحلول التي يجب الأخذ بها قبل بناء أي أهداف إستراتيجية هي الممارسات العالمية التي بنيت وتم تقييم نتائجها ومعرفة جدواها ومدى نجاحها، مع مواءمتها لمجتمعاتنا وخصائصها الثقافية والبشرية والدينية وغيرها، فهذه التجارب والممارسات التي اهتمت بتنمية المناطق والمدن كفيلة بأن تختصر كثيراً من المحاولات والتجارب التي من شأنها أن تعيد حركة العجلة من جديد، ولعلنا في هذا المقال نتطرق إلى بعض التجارب العالمية، وكيف وضعت لنفسها خطوات حقيقية ملموسة وواقعية حققت الهدف في التطوير المستدام، فإن أي خطوة تهدف إلى تطوير المناطق لا بد أن ترتكز في طرحها على الممكنات لأنها مرتبطة بنتائج، فبحسب تعريف بنك التنمية الآسيوي تعتبر إستراتيجية التنمية للمدينة بمثابة خطة عمل لتحقيق النمو، ويتم التطوير فيها من خلال المشاركة العامة من المواطنين.


أما الغايات فتشمل رؤية شاملة للمدينة وخطة عمل لتحسين الحكومة والإدارة وزيادة الاستثمارات من أجل زيادة فرص التوظيف والخدمات، بالإضافة إلى برامج منظمة ودائمة لتقليص معدلات الفقر والتخلف، ولعل التجربتان الألمانية واليابانية من أفضل التجارب التي استطاعت بعد الحروب التي خاضتها أن تعيد نفسها من جديد وبصيغة تنافسية عالمية وليست محلية، فيتعين على المناطق والمدن أن تقود العملية التطويرية بنفسها، وأقصد بنفسها هي أنها تستشعر المشكلة والوضع الذي تعيش فيه، وأن تكون هي المبادرة في صناعة التغيير، لأن التغير الخارجي دائماً ما تكون له تبعات عكسية ترجعه إلى الوراء.

هناك ثلاثة عناصر أساسية عند التفكير بالمدينة إستراتيجياً ركزت عليها اليابان وألمانيا منها:

السلطات المحلية أساسية لتصميم عملية التنمية للمدينة والمنطقة وتنفيذها الملموس، فعند استشعار السلطة المحلية أو الحاكم الإداري المشكلة حتما سيتم وضع الخطط المطلوبة لحلها، فصانع القرار وقيادته للعملية التطويرية تمنحه رؤية واضحة عن تطور المنطقة، وتتيح له حشد الأطراف العامة والخاصة من أجل تبني هذه الرؤية.

يلي ذلك مشاركة الأطراف المحلية (المسؤولون، والجمعيات، والمواطنون والإدارات، الجامعات وجميع طبقات المجتمع.. إلخ) فذلك شرط أساسي لنجاح مشروع التنمية، فعندما يكون المجتمع جزءا من المشكلة لا بد أن يكون جزءا أساسيا من أي عملية تطويرية للحل ومكونا أساسيا في ذلك.

البعد الآخر هو الشراكة بين القطاعين العام والخاص على المستويين الوطني والدولي، فذلك عنصر أساسي في تنفيذ خطط العمل الناشئة عن مشاريع التنمية. وقد نفذت الحكومة اليابانية «خطة طموحة لمضاعفة الدخل» من خلال خفض معدلات الفائدة والضرائب أمام العاملين في القطاع الخاص بهدف تشجيع الإنفاق، إضافة إلى ذلك، ونتيجة المرونة المالية التي قدمها برنامج القروض والاستثمار المالي (FILP)، تم توسيع الاستثمار سريعا في إقامة البنية التحتية فقامت بإنشاء مرافق الطرق السريعة، كما عملت الحكومة على توسعة نطاق الاستثمار الحكومي في قطاع الاتصالات، واستخدامه سياسة نحو الاقتصاد المُدار الذي يلخص نموذج الاقتصاد المختلط، إلى جانب التزام الحكومة بالتدخل وتنظيم الاقتصاد، أيضا اتجهت الحكومة نحو تحرير التجارة. فبحلول أبريل من عام 1960 تم تحرير ما يقرب من 41 في المائة من تجارة الواردات (مقارنة بنسبة 22 في المائة عام 1956). ولكن واجهت جميع تلك الخطط معارضةً شديدة، لكنها أيقنت في ما بعد أن الإستراتيجية كانت صائبة في كثير من أهدافها مساهمة في ارتفاع دخل الفرد ورفاه المجتمع.