لن نتطرق عن الجدل الواسع في استخدام مفهوم البراغماتية، ومدى شرعيتها من عدمه، خاصة أنها تُمارس كأسلوب واقعي فرض نفسه، وتتغنى بعض الدول به كإستراتيجية فاعلة وطريقة مهنية ولدت بأفق صغير، واستخدمت في مجال محدد، إلا أنها من خلال التطور التاريخي الذي مرت به، توسعت وشملت مجالات أخرى، ابتداءً من الشخص البراغماتي إلى السياسة البراغماتية أو الاقتصاد البراغماتي، لتتجاوز بذلك كل المدارس السياسية التي تحكم الدول في إطار تعاملها الخارجي بشكل خاص.

ولكننا في هذا المقال سنحاول تناولها في سياقها الذي وُلدت فيه، حيث بدأت من خلال طرح هذا التساؤل: «كيف نوضح أفكارنا؟»، وهو مقال كتبه «شارلس بيرس»، وهو مؤسس الذرائعية، وأول من ابتكر كلمة البراغماتية الدارجة في الفلسفة المعاصرة، وأول من استخدم هذا اللفظ عام 1878، حيث ذكر في مقاله أنه لكي نبلغ الوضوح التام في أفكارنا وفي موضوع ما، فإننا لا نحتاج إلا اعتبار ما قد يترتب من آثار يمكن تصورها ذات طابع عملي، فقد وضع «بيرس» المرحلة الأولى لمصطلح البراغماتية، وبيّن فيها أننا لن نتمكن من التحقق من صحة المعلومات التي تأتينا عن طريق الحواس؛ لأنها كثيراً ما تكون خادعة، إذ تخلط الحقائق بالأوهام والخيالات والآمال، وستكون النتيجة أننا لن نكون على الطريق الصحيح، وبذلك سنسأل أنفسنا إذا ما طرحت علينا المعلومات والمعارف عن طريق الإعلام أو أي مصدر آخر، وبشكل مُعلّب ظاهره الدليل على الوعي وباطنه التجهيل والتضليل، وفق خطوط مرسومة لنتيجة محددة مسبقة، وبهذا الشكل، ماذا علينا أن نصدق؟، لأن ما نحس به قد ضُلل بالشكل الذي يوحى إلينا أن كل شيء حقيقة، لكنه في واقع الأمر كذب وخداع، وهنا يأتي دور البراغماتية في حل هذا الإشكال، إشكال حقيقة المعارف والمعلومات والأفكار والأخبار الكاذبة، ونبحث من خلال التجربة والتحليل عن صواب وصدق المعارف والمعلومات، فالبراغماتية حسب طرح «بيرس» هي طريقة شأنها شأن المدارس السياسية التي تتبناها الدول الأخرى (كالماركسية والواقعية والرأسمالية)، وفلسفتها أنها تركز على النتائج الإيجابية والمنفعة والثمار المتحصلة التي تؤثر على سلوكنا بشكل إيجابي من الأفكار والقيم والمعايير الأخرى، فلكل شيء وجود حقيقي، فالفكرة التي يشعر بها الفرد تعد مشروعاً، والنشاط هو إنتاج عقل إنساني، فتوضيح الفكرة يكون بالقياس إلى آثارها العملية في حياة الإنسان.

ثم بدأت المرحلة الثانية لمفهوم البراغماتية، وعبر عنها «وليام جيمس» في العصر الحديث، حيث أكد أن كل فكرة صادقة ذات مدلول حقيقي هي التي تؤدي للنجاح، والمعتقد الصحيح هو الذي ينتهي إلى تحقيق أغراض ناجحة في عالمنا، وبهذا نجد أن أفكار «جيمس» هي عبارة عن امتداد منظم لما طرحه «بيرس»، حيث إن براغماتية «جيمس» تضع الأفكار في إطار عملي تجريبي، مع ضرورة تجنب الخطأ الذي لا يؤدي إلى الوصول لنتائج صالحة للفكرة، والتي عادةً ما ترتبط بصناع القرار خاصة بالنسبة للقيادات، وهذا يتقاطع مع ما قاله العالم الألماني «ماكس فيبر» بأن القائد الذي يرى أن «الشيء الصحيح هو الشيء الذي ينبغي فعله» طالما يتفق مع منظومة القيم الإنسانية، وإن كان تحقيقه قد لا يحقق المصالح السياسية للقائد نفسه، وهذا هو ما واجهته ميركل عندما غردت ضد التيار في تبنيها مواقف مغايرة للرأي العام الألماني في قضايا الأزمة المالية والمهاجرين، وقد انعكس ذلك في النتائج المخيبة للآمال في الانتخابات عام 2017.


أما المرحلة الثالثة للبراغماتية، وهي تتمثل في مفهوم التثقيف عند «جون ديوي»، الذي أكد أن المعرفة هي خطة ووسيلة، وبالتالي أصبح العقل أداة نفعية، وأصبح العلم وسيلة للنفع، وصرح «ديوي» بذلك بأن الفكر ليس إلا وسيلة أو ذريعة لخدمة الحياة، وبذلك سميت براغماتية (الذرائعية) (instrumentalism) والقادرة على تطبيق منهج البحث العلمي في مجال التفكير.

وكذلك كان اهتمام «ديوي» الأول والأخير هو (الأخلاق) قبل كل شيء، واعتبر الديموقراطية تصورا أخلاقيا. ونستنتج من الطرح السابق، أن البراغماتية بُنيت على أسس معينة ذات مغزى واضح، ولكنها أخرجت من سياقها الذي بنيت فيه، وعملها الذي أنشأت من أجله، وبحكم منطق العلاقات الدولية فإنها تفضل عدم الالتفات إلى المعايير الأخلاقية والمثالية والمبادئ المثالية في إطار التعامل الدولي، وأصبحت تنظر إلى المصلحة بغض النظر عن المبادئ، ويمكن أن نجد ذلك جلياً في أهم أدوات العلاقات الدولية وهو الإعلام.