وليس أيضا من شك أن التعليم في بلادنا قد ارتقى عن ذي قبل، فالمدارس الثانوية أنشئت في الحواضر الكبرى، والمدارس الابتدائية انتشرت في المدن والقرى، بيد أن التعليم الثانوي -خاصة في العاصمة- سبق التعليم الابتدائي بمراحل، لأنه قد أتيح له من الكفاءات الوطنية والأجنبية وعناصر التخصص ما لم يتح للأخير.
وطلاب التعليم الثانوي اليوم أشد وعيا وأكثر حرية وأشمل ثقافة من طلاب الأمس، وإن كان بعض هؤلاء حفزهم الوعي قبل نحو خمسة عشر عاما لإنشاء مجلات مدرسية خطية، كان فضلهم فيها فضل من يشق طريقه وسط الألغام.
وحاجتنا اليوم إلى مستوى ثقافي تربوي لائق للمدرس الابتدائي كحاجتنا إلى أماكن صالحة للتعليم في جميع مراحله، وكحاجتنا لتوفير الرياضة والغذاء للمتعلمين، وهذه كلها لا تكون إلا بتضافر الحكومة والشعب جميعا، فعلى المدرسين أن يكملوا أنفسهم وعلى الحكومة أن تنظر في رفع مرتباتهم، وعلى الأثرياء أن يسهموا مع ولاة الأمور في بناء مدارس على أحدث طراز، وإذا كانت المدارس في البلدان الراقية تقدم يوميا على خلاف ما عندنا وجبة غذاء صحية للتلاميذ، فذلك لأن الحكومات هناك تتقاضى مصروفات على التعليم، في حين أن التعليم في بلادنا مجاني كله، ومع هذا فقد فتحت الحكومة أقساما داخلية في المعهد وتحضير البعثات ودار التوحيد، وهي عازمة على زيادة اعتماد هذه الأقسام وفتح أقسام داخلية جديدة. فماذا بقى إذن؟ بقي واجب الأثرياء، إن العقل الجمعي والضمير الجمعي للأمة يتوقف نضجهما إلى حد كبير على بناء الجسم الجمعي، والجسم الجمعي لا يبنى إلا بتوفير الصحة والغذاء للأفراد. أما من ناحية تطبيق طرق التربية الحديثة فإنا نسير بخطوات بطيئة جدا، ولكم كان بودي لو استطعنا أن تنتقل من المدرس إلى التلميذ، ومن التعليم إلى التعلم، ومن فرض الشخصية إلى تكوين الشخصية، بيد أن هذا يحتاج إلى زمن ومال وعناصر تربوية ممتازة، ومع ذلك فما أجدرنا أن نختصر الطريق فنكوّن مدرستين نموذجيتين إحداهما ثانوية والأخرى ابتدائية، ننفق عليهما بسخاء ونستقدم لهما أكفأ المدرسين ونطبق فيهما أحدث الطرق، وسنخرّج حينئذ طلابا أقدر على الاضطلاع بأعباء الحياة، وستكون هاتان المدرستان وسيلتين لصقل المدرسين وتمرينهم وأخذهم بأحدث الأسباب، ولتدعيم هذا الاتجاه علينا أن نشجع مبعوثينا في الخارج على الانتماء لمعاهد التربية العالية.
ومن جهة المسؤولية التربوية يسوءني أن أقول: إن كثيرا من أولياء أمور التلامذة يصبون سوط اللائمة على المدرسة وحدها في انحراف أبنائهم، كأنهم قد نسوا أو تناسوا أن هناك تيارات عنيفة تسير ضد المدرسة، ففي جو الشارع يلتقط الطفل ألفاظا نابية ويتعود عادات سيئة: وفي مملكة البيت يربى على الإفراط في العنف أو الإفراط في التدليل، وكثيرا ما يخوف بالعفاريت وتقتل فيه غريزة حب الاطلاع، وينحرف سلوكه تبعا للقدوة السيئة.
والسنوات السبع الأولى التي يقضيها الطفل في البيت والشارع قبل أن ينتمي لمدرسة ما أخطر المراحل في حياة الإنسان، وفيها ترتسم الخطوط الأولى التي سيكون عليها رجل المستقبل، وللأسف الشديد نجد التربية أكثر ما تكون إهمالا في هذا الدور، فعلى الآباء أن يراعوا القواعد الصحية والتربوية في تربية الطفل ويكونوا قدوة صالحة له، وعلى الحكومة أن تشدد التذكير على وباء البذاءة الذي يسمم جو الشارع.
ومرحلة المراهقة لا تقل أهمية عن مرحلة الطفولة، وخطورتها على أن المراهق بعدها إما أن ينشأ متدينا متخلقا أو عابثا مستهترا، وعلى المربين أن يراقبوا المراهقين من غير أن يشعروا وأن يحولوا بينهم وبين الوحدة، وأن يشجعوهم على الرياضة البدنية، ويوجهوهم بالحسنى إلى التي هي أقوم. ومما تقدم نستنتج أن رقي التعليم رهين برقي المجتمع، ومن ثم نرى إنشاء مديرية عامة لشؤون الاجتماع، وتكوين منظمات ثقافية اجتماعية يشترك في الاضطلاع بمهامها مثقفو الأمة وأثرياؤها ورواد الإصلاح فيها. وعلى هذه المنظمات مساعدة الحكومة في محو الأمية ونشر الثقافة في المدن والقرى وفي بناء قاعات للمحاضرات ودور للكتب، وفتح مدارس ليلية وتشجيع الآباء على التثقيف، والترفيه عن الأسر الفقيرة، وإيجاد عمل للمشردين والمتعطلين، وقطع دابر البذاءة من الشارع.
* عام 1955 من المجموعة الكاملة