محمد السعيدي

لست منافقاً ولا طالب منصب أو جاه أو وجاهة أو مال، كل ذلك بعيد عني بإذن الله، ولم تعد تحتمله سِنِّي التي باتت لا يؤرقها شيء مثل نقص ما لله تعالى وحده في أعمالي، ذلك النقص العظيم الذي أرجو من الله وحده أن يعفو عنه وأن يجبر كسري فيه برحمته.

لهذا فكلامي هو كلام الجاد الراغب فيما يقول وجهَ الله تعالى وحده، والذي يعجز عن الكلمة التي عاقبتها سخطه سبحانه أو أذى أحد من خلقه.

فأقول ههنا: إن فضل الدولة السعودية عظيم وعظيم جداً، بل أقول إنه أعظم من أي فضلٍ سواه؛ فضلُها على من كان مواطناً فيها، أو مقيماً داخلها لطلب دنيا، أو لاجئاً إليها من غوائل الزمان في بلاده، وكذا فضلها على الأمم الأخرى العربية والمسلمة، هذا إضافة إلى فضلها على الأمم غير المسلمة التي لا أستثنيها جميعا من فضل السعودية عليها، إما فضلاً بالتفوق عليها أو فضلاً بما تحقق لتلك الدول من عائدٍ مادي أو معنوي على يدها.

وأتحدث في هذا المقام عن فضلها على أهلها بما مكنهم الله تعالى من أمورٍ لولا أني أشاهد من بعض الناس نسيانها أو الغفلة عنها لعددتُ سردها من التعريف بالمعَرَّفَات التي لا حاجة إليها.

فمن ذلك لها على مواطنيها من الفضل أنهم صاروا بها تحت قيادة واحدة من البحر إلى البحر ومن اليمن إلى الشام، وهو أمر لم يصر إليه أهل الجزيرة العربية من بعد بني أُمَيَّةَ حتى قيام هذه الدولة رعاها الله، أما دولة بني العباس في أولها فكانت تعتني بفرض أمن الحجيج القادمين من العراق والشام إلى مكة، وفيما سواه لم يكن ثَمَّ اهتمام.

وما جاءت به الدولة السعودية من جعل مواطن هذه البلاد التي آلت إليها هو موضع الاهتمام الأول في كل شيء لم يكن في دولة سابقة أبدا.

فأول عنايتها هو المعتقد في الله تعالى، إذ كانت الدولة السعودية تُولِي ذلك العناية الكاملة، فلم يكن لأحدٍ، مواطناً كان أو مقيماً، أن يجعل حياً أو ميتاً وسيطاً بينه وبين الله تعالى، وأي خلل في الاعتقاد في الله تعالى أو في رسوله صلى الله عليه وسلم فالكل يعلم علاجه، أما الخلاف في الأمور العملية فذلك واسع فخذ ما شئت ودع ما شئت.

وكما هو جمع الناس على المعتقد، كذلك جَمْعُهُم في البلاد التي عانت من صروف التشتت أحقاباً يقتل بعضهم بعضاً ويأخذ بعضهم مال بعض، لا يحتمون من معادٍ بسورٍ ولا صحراء، إلا قِيَمَاً يَمتَثِلُها أكارمهم فتصبح كالحجاب بينهم، وربما وَضع الكرام قِيَمَاً للمقاتَلَة كما وضعوها لكف الأذى، فروح المرء وسلامته مرهونة بما تقوله تلك القيم إن خيراً فخير وإن شراً فشر؛ وكان هذا أمراً دائماً لا انقطاع فيه إلا بنشوء هذه الدولة التي كانت القيمة فيها هي الإسلام، فأنت آمن ما أمَّنك الإسلام، وتنال عقوبتك بقدر ما يحكم الإسلام لا وكْسَ ولا شطط.

ولو لم يكن للدولة السعودية إلا هذه الحسنة لكفى بها آمِرَةً أهلها بالانصياع لها والنصح والدعاء بدوام التوفيق والسداد، فكيف وإنها أعطتهم كلَّ مالهم عندها، إن كانوا موظفين فالرواتب، وإن كانوا رجال أعمال، فقد سهلت لهم كل ما يحتاجه رجل الأعمال ولم تحسد أحداً منهم شيئا، أما من مسه الفقر فقد جعلت له الضمان الذي يؤهله اجتماعياً ويعينه على طلب الرزق، وغير الضمان الجمعيات التي تعتني بالبائسين والفقراء، قد يقول قائل رأينا الفقراءَ وصغار الموظفين ولم نر شيئاً أغناهم، فيقال له: الفقر موجود ما وُجد البشر، ومهمة الحُكَّام إعالة الفقراء وليس إزالة الفقر؛ وكل فقير يعلم أن مبدأ فقره منه هو أولاً، وذلك من ضعف في العلم، أو قلة نشاط، أو كثرة ولد مع ضعف دخل مادي، أو استحكام دَيْنٍ وقِلَّة توفيق، أو أسباب أُخر كانت في تقدير الله تعالى سبباً للفقر؛ فتلك ليست مغبتها على الحاكم؛ وحسبُ الحاكم أن يضع يده مع الواضعين لتخفيف ألم ما يعانيه ذلك الفقير؛ ومعلومٌ أن الدولة السعودية وإن كانت أتاحت للجمعيات الخيرية والأفراد سبل إعانة الفقير، إلا أنها تملك هي أيضاً مؤسسات أخر تعمل العمل ذاته، وتسعى ألَّا يكون مواطناً واحداً يعاني من الفقر.

في هذه الدولة كل الناس على السوية في العلاج وفي طلب الصحة، ولا تسأل عما توفره من عدد المستشفيات في المدن وعدد المراكز الصحية وعدد المستوصفات، والأنظمة العظيمة في تدبيرها لهذا الكم الكبير من الهيئات الصحية؛ فالمواطن يبدأ علاجه في المركز الصحي الذي يوجد في كل حي، وكل مركز مربوط بمستشفى، وهذه المستشفيات الكثيرة تحيل المريض إن اقتضى الأمر إلى مستشفيات أكبر في المدن الكبرى.

وقد تجد عجلان لا تحتمل عجلته ظروف المشافي العامة، فيذهب إلى مشافٍ أو مستوصفات خاصة، لا تُديرها الدولة، لكن الدولة وراءها، فلا يُعَينُ فيها إلا من كان صحيح الشهادة، ويعالج الناس فيما مؤهل لعلاجهم فيه، ومن أحس بخطأ طبيب عليه فله شكواه بأيسر ما يكون، مكالمة تليفونية يثبت فيها الواقعة فتصير الشكوى رسمية ويؤخذ فيها المخطئ بذنبه.

والتعليم حدث عنه ولا حرج، فهو في مدارس مبنية على أحدث طراز، وإذا كان الحي جديداً أو قديماً لكنه استحقّ مدرسة فلا يُنتظر حتى يُبنى؛ بل تستأجر الدولة مدرسة حتى يأتي الدور على هذه فتبنى، سواء أكان ذلك في مدينة عامرة أو في قرية نائية صحراوية أو في شعاف الجبال التي لا تصلها السيارات، المهم أن المدرسة تكون وأن العلم يصلك أمام بيتك، حتى غدت السعودية أول دولة عربية مُحِيَت فيها الأمية وأعظم الدول العربية علماء في الشريعة وفي سائر العلوم كالطب والهندسة والكيمياء وغيرها.

هذه هي السعودية ولو شئتُ لأطلت القول بما لا يُخالفني فيه أحد، حتى أولئك الذين يزعمون المعارضة من الخارج إلا عتواً وميلاً عن الحق.

ولا بأس أن أقول إن بعض هؤلاء يحتجون بأمور تقع في السعودية ويقولون إنها ليست من الإسلام، وهذا غير صحيح ويقال له: وهل رأيت في الحياة خيراً كاملاً قط؟ لا يوجد ذلك، ولو بحثت في التاريخ القديم من الدول التي تُقَدِّرُها أنت من العباسيَّة والأيوبية والمملوكية والعثمانية، لوجدت من تَجَاوِز أحكام الإسلام الشيء الخطير الذي لا تُعذر الدول بتركه؛ ولكن الله جعل النقص ليعتصم المسلمون بالدعاء إلى الله أن يُتم عليهم نعمته ويجعل الإسلام غاشياً كل شيء في حياتنا؛ كما أن من يطلُب الإسلام في حياته يُكَمِل نفسه بالإسلام أولاً، ولكن الناس غيرَ ذلك يَفعلون، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله نسأل الله أن يتم علينا نعمه ظاهرة وباطنة.