محمد بن صقر

ما دار بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في البيت الأبيض، ومشادتهما الكلامية يعتبر سابقة في الدبلوماسية الأمريكية، خاصة أمام وسائل الإعلام، ولعلي أتناول بعض الأمور من جانب اتجاهات الرأي العام العالمي، فالرأي العام يشاهد حدثا كما هو، وهذا الحدث لم يخضع لإعادة صياغة بناء على أجندة معينة أو تضليل متعمد من قِبل الأطراف الإعلامية، حيث إن المشادة الكلامية، التي خرجت عن سياق الدبلوماسية وأعرافها، جعلت ردود الفعل تنهال بشكل غير مسبوق، فالرئيس الأوكراني بمثابة الضحية في نظر الأوروبيين، الذي تعرض إلى ضغوط كبيرة، شملت حتى طريقة لبسه، عطفا على مقتل شعبه الذي يحاول أن يدافع عنهم، ويستنجد بالرئيس الأمريكي.

دفعت التطورات الأخيرة في أوكرانيا القادة الأوروبيين إلى اتخاذ مواقف سريعة وداعمة للرئيس الأوكراني، فنجد إيمانويل ماكرون يؤكد أن روسيا هي المعتدي وأوكرانيا هي الضحية، متهما بوتين بالتلويح بالحرب العالمية الثالثة، وليس زيلينسكي. ولم تقتصر ردود الفعل الأوروبية على ذلك، بل سارع قادة آخرون للتعبير عن دعمهم لأوكرانيا، مثل مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، كايا كالاس، التي أكدت وقوف أوروبا إلى جانب أوكرانيا، مشككة في قيادة الولايات المتحدة العالم الغربي.

كما أكد المستشار الألماني أولاف شولتس دعم ألمانيا وأوروبا لأوكرانيا، ودعت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني إلى عقد قمة عاجلة بين واشنطن وأوروبا وحلفائهما، لمناقشة الأزمة الأوكرانية. هذه الأحداث المتسارعة دفعت كلا من الولايات المتحدة والدول الأوروبية إلى صياغة سردية موحدة، لتقديمها للرأي العام.

وبغض النظر عما شاهدته الجماهير، تكمن القصة في كيفية استغلال الحدث والعمل على تفاصيله؟ فسردية الولايات المتحدة تركز على نقاط عدة في مخاطبتها للجمهور، وهي قوة الولايات المتحدة، وأنها صاحبة الكلمة في إيقاف الحرب. كذلك مصالح أمريكا العليا، خاصة الجوانب الاقتصادية، وطلب تعويض الولايات المتحدة عن المبالغ التي دفعتها الى أوكرانيا من خلال صفقة المعادن. كذلك السردية التي تحاول الولايات المتحدة فرضها موجهة إلى العالم الأوروبي، وإلى الشعب الأوكراني بعدم أهلية الرئيس الأوكراني، ومحاولة تأليب الرأي العام عليه، وأنه لا بد أن يتنحى ليعم السلام، ولا بد من انتخابات لتحدد أوكرانيا مصيره في ظل الأزمة التي صنعها زيلينسكي بمساعدة بايدن والاتحاد الأوروبي.

هذه السردية تقابلها سردية موجهة إلى الرأي العام العالمي، مهندسو صياغتها هم الدول الأوروبية وأوكرانيا، ويتفق زعماء الدول الأوروبية على بثها إلى الجماهير، وهي وحدة الدول الأوروبية في دعم أوكرانيا، وأنها ليست وحدها. كذلك تصوير رفض زيلينسكي على توقيع صفقة المعادن بأنه إنجاز وطني وقوي وشجاع، لحماية أملاك ومدخرات أوكرانيا، وعدم التعدي على سيادتها تحت أي ظرف، وهذا ما رأته الصحف الأمريكية.

وعلى الرغم من أن تصريحات ترامب، التي قد يُنظر إليها على أنها محاولة لاستقطاب الرأي العام الأوكراني ضد الرئيس فولوديمير زيلينسكي، فإن الصحف الأمريكية حذرت من أن هذه الإستراتيجية قد تأتي بنتائج عكسية. فمن المرجح أن ينظر الأوكرانيون إلى معارضة زيلينسكي صفقة يرونها مجحفة، وتُفرض عليهم من قِبل الولايات المتحدة وروسيا، على أنها موقف وطني يصب في مصلحته. كذلك تركز سردية الدول الأوروبية على توحيد الصوت الأوكراني ضد النفوذ الروسي، وهذا ما بينته دراسات معهد كييف الدولي لعلم الاجتماع (KIIS)، وهو المنظمة البحثية التي تجرى فيها استطلاعات للرأي العام، حيث بينت الاستطلاعات أن الأوكرانيين أصبحوا أكثر تسامحا مع إخفاقات الدولة، وركزت البلاد على مقاومة روسيا. وبالتالي نجد أن المشادة الكلامية عززت هذا التلاحم، ووضعت لبنة في تقوية السرديات والقصص التي ستبث للجماهير الأوروبية، والغربية على وجه العموم، بطرق وزوايا مختلفة.

ما يهمنا في هذا الصدد الآن أن الأحداث التي تحصل أمام الجماهير سيتم استغلالها وتحوير مضامينها، لتشغل الأفكار، وتوظف في مصالح كل طرف.