في محاولته الإجابة عن سؤال: ما الفلسفة؟ عرَّف الفيلسوف الفرنسيُّ المعاصر جيل دولوز (1925–1995) الفلسفةَ بأنَّها عبارة عن إبداع المفاهيم، وأنَّها لم تعُد معرفة المبادئ الأولى، بحسب ما كان مُتعارفًا عليه في التُّراث الإغريقيّ الأرسطيّ.
فقد اعتبر أرسطو (ت. 322 ق.م) فلسفةَ الوجود فلسفةً أولى بوصفها أساسًا للأنطولوجيا، واعتبرها هايدغر (1889-1976) تذكُّرًا للوجود، واعتبرها إيمانويل ليفيناس (1906-1995) فلسفةً أولى، لكن ليس بالمعنى الأرسطيّ أو الهايدغريّ؛ وإنمَّا تأسيسًا لِما وراء الأنطولوجيا كإيطيقا.
فالفلسفة بوصفها فلسفةً أولى - من وجهة النظر الميتافيزيقيّة - هي ما وراء البداية والنهاية/ البدء والاكتمال؛ أيّ أنّها تَبدأ من حيث يَكتمل العالَم، وتنتهي في أُفق الوجود. فجميع التساؤلات الفلسفيّة الأساسيّة والأصيلة، هي في الحقيقة، تساؤلات في غير أوانها؛ وذلك يَرجع: إمَّا لأنَّ الفلسفة بطبيعتها دائمًا ما تَسبق زمانَها، وإمَّا لأنَّها تربط الحاضرَ بالماضي.
بهذا التَّعريف يَنقل جيل دولوز الفلسفةَ من طوبائيّة البحث عن الحقيقة إلى حيِّز أدوات البحث التي تتعامل مع أجواء الحقيقة، واضِعًا - بتعريفه هذا - حدًّا للقول العتيق المتعلّق بالمبادئ، أو الكليّات التي «لا تُفسِّر شيئًا، بل تحتاج هي نفسها لِأَنْ تغدُوَ مُفسَّرة».
أمَّا آلان باديو (1937...)، فينحو من جانبه إلى تأكيد أنَّ الفيلسوفَ يُنشئ مشكلاتِه بنفسه؛ فالفلسفة تعني - أوَّلًا وقَبل كلّ شيء - ابتكارَ مشكلاتٍ جديدة في إطار ما سمَّاه وضْعًا فلسفيًّا Philosophical Situation. ولهذا شدَّد أفلاطون (427 – 347 ق.م) على أنَّ الفلسفةَ إيقاظٌ، والإيقاظُ يتضمَّن – يقينًا – انقطاعًا صعبًا عن النَّوم. فالفلسفة إذًا هي الفهْمُ من خلال الفكر لِما سينقطع مع سُبات الفكر.
أمَّا محمَّد إقبال (1877-1938)، فأكَّد أنَّ روح الفلسفة هو التَّساؤل الحرّ؛ إذ تَضـع كلَّ سلطةٍ فكريَّة مَوضع الشَّك. فوظيفةُ الفلسفة أن تتعقَّبَ الفروضَ الواهية في الفكر الإنسانيّ إلى جذورها الخفيّة، وقد تنتهي في هـذا المسعى إلى إنكـار العقـل الخالـص، أو الاعتراف صـراحةً بعجـزه عـن الوصـول إلى الحقيقـة المُطلَقـة. أمَّا جوهر الدّين، فهو الإيمان الكلّي الذي يُهاجِـم قلبَ الإنسـان الحـيِّ فيُلبـسه ثـراءَ الحيـاة الخفـيّ الكامن في أعمـاقه.
فالفلسفة، بحسب دولوز إذن، تتجاوز حدود التَّأمُّل والتَّفكير والتَّواصل – كما كان تَصَوُّرُها في عهد المأدُبة السُّقراطيّة – إلى أَفْهَمَةِ الكليّات ومَفْهَمَة المبادئ، حيث يُمثّل إبداعُ المفاهيم الينبوعَ المتدفَّق الدَّائم. فإذا ما أصبح للعِلم اختصاصُ المعارف، وصار للفنون ابتكارُ الأفكار الجميلة، فإنَّه يتبقَّى للفلسفة إبداعُ المفاهيم. لكنْ عليها أن تكافح، أوَّلًا، من أجل الحصول على حصّتها من كلّ معرفة إنسانيّة.
ليس هذا فحسب، بل لا يكفي في عصرنا هذا أن تُعلن العلومُ والفنون توبتَها عن إنكار بُنُوّتِها للفلسفة، فتتدافَع نحو أحضانها من جديد. صحيح أنَّ الفلسفة لا تَطمح لِأَنْ تكون أمَّ العلوم مجدَّدًا؛ لكنَّها تُطالِب مختلف العلوم باللّجوء إليها كليًّا، وأن تتناسى منهجيَّاتها، وتُقرَّ بحقّ مساءلتها لها بطريقتها الخاصَّة.
وعليه فإنَّ مَهَمَّة السُّؤال الفلّسفيّ، بحسب دولوز، تكمن إذًا في إعادة اكتشاف أسرار الفلسفة، حيث يُمارِس المفهوم جدواه – أو أهميَّته – بإمكانيَّاته الأصليّة، وحيث لا يُعدُّ المفهومُ بديلًا من الحقيقة.
وبهذا يَكسر إبداعُ المفاهيم عزلةَ الفلسفة باختراق معازل الآخرين، المتوزّعين حلبةَ الإبداع الإنسانيّ، فتدخل مساحات المحايثة، تُحوّلها إلى خارطةٍ واقعيّة بواسطة المفاهيم؛ إذ لا تستطيع الفلسفة – في عصرنا هذا – أن تقدّم نفسَها إلَّا عبر الآخرين؛ إلَّا بقدر ما تقرأ سواها.
في السياق ذاته يُميّز الفيلسوفُ الألماني لودفيغ فيورباخ (1804-1872) في مقالته «ضرورة إصلاح الفلسفة» بين نوعَيْن من الفلسفة:
الفلسفة الأكاديميّة الخالصة، والفلسفة الإنسانيّة الحضاريّة؛ أي بين فلسفة جديدة تدخل في نطاقِ الزمان المُشترَك مع الفلسفات المبكّرة، وفلسفة تنتمي إلى شكلٍ جديد تمامًا في تاريخ الجنس البشريّ؛ أو بالأحرى بين فلسفةٍ تدين بوجودها إلى مطلبٍ فلسفيّ وتتّفق مع احتياجات الجنس البشريّ بشكلٍ غير مباشر بموجب انتمائها إلى تاريخ الفلسفة، وأخرى بمثابة تاريخٍ للجنس البشريّ بشكلٍ مباشر.
وإذا ما أمعنّا النَّظر في حصيلة التفكير الفلسفيّ في الإسلام، نلاحظ أنَّه يتّسم بمجموعة من السمات التي تميّزه عن كثير من أنماط التفكير الفلسفيّ الأخرى. ففضلًا عن طابع الشموليّة الذي امتاز به فلاسفةُ الإسلام، غلبَت عليهم العناية بالجانب العمليّ – الأخلاقيّ. فما الذي يُمكن للفلسفة الإسلاميّة أن تقدّمه اليوم؟ وإلى أيّ مدى تتّسم المشروعاتُ الفلسفيّة العربيّة المُعاصرة بالإبداع الفكريّ أو الذاتيّ، بما يُمكن أن يُسهِم في مسيرة الإبداع الكونيّ؟ خاصَّة في ظلّ السؤال المشروع، والمُلحّ، حول جديّة تلك المشروعات واستمراريّتها، ومدى إسهامها – فعليًّا – في تطوير الفكر الفلسفيّ العربيّ، بعد مرور ما يزيد على نصف قرنٍ من ظهورها؟ وفي ظلّ ما تردَّد مؤخّرًا عن حذْف مادّة الفلسفة من مناهج التعليم المصريّة؟
تلك الاختلالات الخمسة
في رأينا أنّه يُمكن للفلسفة الإسلاميّة أن تُسهِم في تطوُّر المَتن الفلسفيّ العالميّ عبر تأكيدها الطابع العمليّ، في مقابل الإغراق في التنظير والتجريد، والدَّفع في اتّجاه الرُّوحانيّة الإيمانيّة في مُواجَهة «القوّة الرأسماليّة الطاغية التي تَضَع الحَبكة الأساسيّة للقصَّة وتكتفي الشعوبُ بتفسيراتها»، كجزءٍ من سياقٍ أكبر يتعلَّق بالعودة إلى الدّين مع انبثاق فكر «ما بعد الحداثة». كما يُمكن لها أن تُسهِم في تأصيل القيَم الأخلاقيّة الحضاريّة في مقابل النّزعات الدَّهرانيّة؛ وأن تُشدِّد على طابع الغائيّة في مقابل الفلسفات العدميّة، وأن تُعيد الاعتبار إلى العقل بوصفه شرطًا تأسيسيًّا للإيمان الدينيّ، وليس باعتباره أداةً تقنيّة بحتة، أو نقيضًا مباشرًا للفطرة الإيمانيّة.
أخيرًا، وليس آخرًا، يُمكن للفكر الإسلاميّ بعامَّة أن يُسهِم في ما أَطلق عليه يورغن هابرماس (1929...) المُجتمعات ما بعد العلمانيّة، وفي النقد الذي وجَّهه تشارلز تايلور (1931...) للعلمانيّة في كتابه «عصرٌ علمانيّ»، إذ تَقرأ العلمانيّةُ الغربيّة التاريخَ الإنسانيّ: إ
مَّا كعمليّة انحدارٍ للدينيّ وتكشُّف العلمانيّ، باعتباره حقيقة للإنسانيّ برمَّته، وإمَّا كتضاربٍ للقوى الدّينيّة والعلمانيّة منذ مستهلّ التاريخ إلى العصر الحديث، أو ما بعد الحداثيّ. وبهذا تغدو العلمانيّة سرديّةً كبرى (Grand Narrative)، يُقرأ التاريخ البشريّ من خلالها على أنَّه تقدُّمٌ في سبيل العلْمَنة، وتقدُّمٌ في سبيل العِلم والاستنارة، في حين تُسهِم عودةُ الدّين إلى النقاش العامّ في الخروج من ربقة الاختصام التاريخيّ بين كلٍّ من الدّينيّ والدّنيويّ.
على أنَّ اعتدادَنا بإرثنا الفلسفيّ، قديمه وحديثه، وتطلُّعَنا إلى الإسهام في المُنجَز الفلسفيّ العالميّ، يظلّ مرهونًا بمُعالَجة اختلالاتٍ خمسة تطال الدرسَ الفلسفيَّ العربيَّ المُعاصِر، ولا مندوحة عن رفع إشكالاتها:
اختلالٌ أوَّل لجهة الفصل والوصل في علائق الفيلسوف، أو المشتغل بالفلسفة، بالسُّلطة: سلبًا أم إيجابًا.
اختلالٌ ثانٍ لجهة علائق الفيلسوف، والمثقَّف بعامَّة، بالنصّ المقدَّس: تفسيرًا وتأويلًا، إذ نشهد موجاتٍ متتابعة من المدّ والجزر لمَن أَطلق عليهم محمَّد الطالبي (1921-2017) مسمَّى «الإنسلاخسلاميّة»/ «الانسلاخ عن الإسلام»؛ وذلك في سياق نقده بعض الـحداثيّين العرب ممَّن بُنيت أعمالهم على هذا الأساس.
اختلالٌ ثالث لجهة ضعف التكوين الفلسفيّ في الجامعات العربيّة بعامَّة؛ خاصَّة في الدرس الكلاميّ مقارنةً بنظيره في الحوزات الشيعيّة. ناهيك بالجهل بالتراث الإسلاميّ على مستوى دوائره الثلاث: علوم الآلة، علوم الغاية، علوم الحِكمة، وانعدام ثقافة التحقيق لدى كثير ممَّن يتصدَّون لتدريس الفلسفة.
اختلالٌ رابع لجهة تضخُّم الأنا وغياب النَّزعة النقديّة في المناهج التعليميّة، فضلًا عن الإغراق في النَّزعة الماضويّة. وقد سبقَ للحكيم الترمذيّ أن انتقدَ طَلَبَةَ العِلم في عصره قائلًا: «وحاصل أحدهم لا يزيد عن ألف مسألة في أصول الدّين، حتَّى إذا تأكَّدت رياسةُ الواحد منهم، وجدتَه في آخر أمره جبَّارًا عتيًّا».
ولا يقتصر الأمر، في واقع الأمر، على الصغار دون الكبار ممَّن تنطبق عليهم، وفيهم، مقولةُ الحسين بن منصور الحلَّاج في شيخه الجُنيّد البغداديّ: «منزلة الرجال تُعطى ولا تُتعاطى، وليس له إلَّا الشيخوخة».
اختلالٌ خامس لجهة آليّة الالتحاق الميكانيكيّة المُعتمَدة في جلّ الجامعات العربيّة في أقسامِ الفلسفة وفقًا لمجموع الطالب الدراسيّ في مرحلة الثانويّة.
وتبعًا لذلك، ابتُليت أقسامُ الفلسفة بجحافل من الطلبة الكارهين لها، المُتعاطين مع السنوات الدراسيّة ككابوسٍ يجب احتمالُه للحصول على الشهادة الجامعيّة ليس إلَّا. ناهيك بالهوَّة الفاصلة بين مُخرجات هذا التحصيل العلميّ، على بؤسه، ومتطلّبات أسواق العمل؛ فضلًا عن البنية التسلّطيّة – إلَّا في ما ندر – التي تَحكم علاقة الأستاذ بطلَّاب الدراسات العليا.
ونتيجةً لتلك الاختلالات الخمسة، وغيرها بالطبع، بقيَ الدرسُ الفلسفيّ العربيّ يُراوِح مكانه، كأنَّه يدور في دائرةٍ مُغلَقة، فإذا بالموضوعات القديمة/الجديدة تتكرَّر، وإذا بالإبداع ينضُب، وإذا بالفوات التاريخيّ يتعمَّق، وكما يقول ابن خلدون: «متى توقّفتِ العبقريّةُ، وتعطَّل الطموحُ، وتقلَّصت التطلُّعاتُ، توارى النُّورُ، وأَفلَ الأملُ، وحكمَ الأمواتُ الأحياءَ»!
*كاتب وباحث من مصر
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.
فقد اعتبر أرسطو (ت. 322 ق.م) فلسفةَ الوجود فلسفةً أولى بوصفها أساسًا للأنطولوجيا، واعتبرها هايدغر (1889-1976) تذكُّرًا للوجود، واعتبرها إيمانويل ليفيناس (1906-1995) فلسفةً أولى، لكن ليس بالمعنى الأرسطيّ أو الهايدغريّ؛ وإنمَّا تأسيسًا لِما وراء الأنطولوجيا كإيطيقا.
فالفلسفة بوصفها فلسفةً أولى - من وجهة النظر الميتافيزيقيّة - هي ما وراء البداية والنهاية/ البدء والاكتمال؛ أيّ أنّها تَبدأ من حيث يَكتمل العالَم، وتنتهي في أُفق الوجود. فجميع التساؤلات الفلسفيّة الأساسيّة والأصيلة، هي في الحقيقة، تساؤلات في غير أوانها؛ وذلك يَرجع: إمَّا لأنَّ الفلسفة بطبيعتها دائمًا ما تَسبق زمانَها، وإمَّا لأنَّها تربط الحاضرَ بالماضي.
بهذا التَّعريف يَنقل جيل دولوز الفلسفةَ من طوبائيّة البحث عن الحقيقة إلى حيِّز أدوات البحث التي تتعامل مع أجواء الحقيقة، واضِعًا - بتعريفه هذا - حدًّا للقول العتيق المتعلّق بالمبادئ، أو الكليّات التي «لا تُفسِّر شيئًا، بل تحتاج هي نفسها لِأَنْ تغدُوَ مُفسَّرة».
أمَّا آلان باديو (1937...)، فينحو من جانبه إلى تأكيد أنَّ الفيلسوفَ يُنشئ مشكلاتِه بنفسه؛ فالفلسفة تعني - أوَّلًا وقَبل كلّ شيء - ابتكارَ مشكلاتٍ جديدة في إطار ما سمَّاه وضْعًا فلسفيًّا Philosophical Situation. ولهذا شدَّد أفلاطون (427 – 347 ق.م) على أنَّ الفلسفةَ إيقاظٌ، والإيقاظُ يتضمَّن – يقينًا – انقطاعًا صعبًا عن النَّوم. فالفلسفة إذًا هي الفهْمُ من خلال الفكر لِما سينقطع مع سُبات الفكر.
أمَّا محمَّد إقبال (1877-1938)، فأكَّد أنَّ روح الفلسفة هو التَّساؤل الحرّ؛ إذ تَضـع كلَّ سلطةٍ فكريَّة مَوضع الشَّك. فوظيفةُ الفلسفة أن تتعقَّبَ الفروضَ الواهية في الفكر الإنسانيّ إلى جذورها الخفيّة، وقد تنتهي في هـذا المسعى إلى إنكـار العقـل الخالـص، أو الاعتراف صـراحةً بعجـزه عـن الوصـول إلى الحقيقـة المُطلَقـة. أمَّا جوهر الدّين، فهو الإيمان الكلّي الذي يُهاجِـم قلبَ الإنسـان الحـيِّ فيُلبـسه ثـراءَ الحيـاة الخفـيّ الكامن في أعمـاقه.
فالفلسفة، بحسب دولوز إذن، تتجاوز حدود التَّأمُّل والتَّفكير والتَّواصل – كما كان تَصَوُّرُها في عهد المأدُبة السُّقراطيّة – إلى أَفْهَمَةِ الكليّات ومَفْهَمَة المبادئ، حيث يُمثّل إبداعُ المفاهيم الينبوعَ المتدفَّق الدَّائم. فإذا ما أصبح للعِلم اختصاصُ المعارف، وصار للفنون ابتكارُ الأفكار الجميلة، فإنَّه يتبقَّى للفلسفة إبداعُ المفاهيم. لكنْ عليها أن تكافح، أوَّلًا، من أجل الحصول على حصّتها من كلّ معرفة إنسانيّة.
ليس هذا فحسب، بل لا يكفي في عصرنا هذا أن تُعلن العلومُ والفنون توبتَها عن إنكار بُنُوّتِها للفلسفة، فتتدافَع نحو أحضانها من جديد. صحيح أنَّ الفلسفة لا تَطمح لِأَنْ تكون أمَّ العلوم مجدَّدًا؛ لكنَّها تُطالِب مختلف العلوم باللّجوء إليها كليًّا، وأن تتناسى منهجيَّاتها، وتُقرَّ بحقّ مساءلتها لها بطريقتها الخاصَّة.
وعليه فإنَّ مَهَمَّة السُّؤال الفلّسفيّ، بحسب دولوز، تكمن إذًا في إعادة اكتشاف أسرار الفلسفة، حيث يُمارِس المفهوم جدواه – أو أهميَّته – بإمكانيَّاته الأصليّة، وحيث لا يُعدُّ المفهومُ بديلًا من الحقيقة.
وبهذا يَكسر إبداعُ المفاهيم عزلةَ الفلسفة باختراق معازل الآخرين، المتوزّعين حلبةَ الإبداع الإنسانيّ، فتدخل مساحات المحايثة، تُحوّلها إلى خارطةٍ واقعيّة بواسطة المفاهيم؛ إذ لا تستطيع الفلسفة – في عصرنا هذا – أن تقدّم نفسَها إلَّا عبر الآخرين؛ إلَّا بقدر ما تقرأ سواها.
في السياق ذاته يُميّز الفيلسوفُ الألماني لودفيغ فيورباخ (1804-1872) في مقالته «ضرورة إصلاح الفلسفة» بين نوعَيْن من الفلسفة:
الفلسفة الأكاديميّة الخالصة، والفلسفة الإنسانيّة الحضاريّة؛ أي بين فلسفة جديدة تدخل في نطاقِ الزمان المُشترَك مع الفلسفات المبكّرة، وفلسفة تنتمي إلى شكلٍ جديد تمامًا في تاريخ الجنس البشريّ؛ أو بالأحرى بين فلسفةٍ تدين بوجودها إلى مطلبٍ فلسفيّ وتتّفق مع احتياجات الجنس البشريّ بشكلٍ غير مباشر بموجب انتمائها إلى تاريخ الفلسفة، وأخرى بمثابة تاريخٍ للجنس البشريّ بشكلٍ مباشر.
وإذا ما أمعنّا النَّظر في حصيلة التفكير الفلسفيّ في الإسلام، نلاحظ أنَّه يتّسم بمجموعة من السمات التي تميّزه عن كثير من أنماط التفكير الفلسفيّ الأخرى. ففضلًا عن طابع الشموليّة الذي امتاز به فلاسفةُ الإسلام، غلبَت عليهم العناية بالجانب العمليّ – الأخلاقيّ. فما الذي يُمكن للفلسفة الإسلاميّة أن تقدّمه اليوم؟ وإلى أيّ مدى تتّسم المشروعاتُ الفلسفيّة العربيّة المُعاصرة بالإبداع الفكريّ أو الذاتيّ، بما يُمكن أن يُسهِم في مسيرة الإبداع الكونيّ؟ خاصَّة في ظلّ السؤال المشروع، والمُلحّ، حول جديّة تلك المشروعات واستمراريّتها، ومدى إسهامها – فعليًّا – في تطوير الفكر الفلسفيّ العربيّ، بعد مرور ما يزيد على نصف قرنٍ من ظهورها؟ وفي ظلّ ما تردَّد مؤخّرًا عن حذْف مادّة الفلسفة من مناهج التعليم المصريّة؟
تلك الاختلالات الخمسة
في رأينا أنّه يُمكن للفلسفة الإسلاميّة أن تُسهِم في تطوُّر المَتن الفلسفيّ العالميّ عبر تأكيدها الطابع العمليّ، في مقابل الإغراق في التنظير والتجريد، والدَّفع في اتّجاه الرُّوحانيّة الإيمانيّة في مُواجَهة «القوّة الرأسماليّة الطاغية التي تَضَع الحَبكة الأساسيّة للقصَّة وتكتفي الشعوبُ بتفسيراتها»، كجزءٍ من سياقٍ أكبر يتعلَّق بالعودة إلى الدّين مع انبثاق فكر «ما بعد الحداثة». كما يُمكن لها أن تُسهِم في تأصيل القيَم الأخلاقيّة الحضاريّة في مقابل النّزعات الدَّهرانيّة؛ وأن تُشدِّد على طابع الغائيّة في مقابل الفلسفات العدميّة، وأن تُعيد الاعتبار إلى العقل بوصفه شرطًا تأسيسيًّا للإيمان الدينيّ، وليس باعتباره أداةً تقنيّة بحتة، أو نقيضًا مباشرًا للفطرة الإيمانيّة.
أخيرًا، وليس آخرًا، يُمكن للفكر الإسلاميّ بعامَّة أن يُسهِم في ما أَطلق عليه يورغن هابرماس (1929...) المُجتمعات ما بعد العلمانيّة، وفي النقد الذي وجَّهه تشارلز تايلور (1931...) للعلمانيّة في كتابه «عصرٌ علمانيّ»، إذ تَقرأ العلمانيّةُ الغربيّة التاريخَ الإنسانيّ: إ
مَّا كعمليّة انحدارٍ للدينيّ وتكشُّف العلمانيّ، باعتباره حقيقة للإنسانيّ برمَّته، وإمَّا كتضاربٍ للقوى الدّينيّة والعلمانيّة منذ مستهلّ التاريخ إلى العصر الحديث، أو ما بعد الحداثيّ. وبهذا تغدو العلمانيّة سرديّةً كبرى (Grand Narrative)، يُقرأ التاريخ البشريّ من خلالها على أنَّه تقدُّمٌ في سبيل العلْمَنة، وتقدُّمٌ في سبيل العِلم والاستنارة، في حين تُسهِم عودةُ الدّين إلى النقاش العامّ في الخروج من ربقة الاختصام التاريخيّ بين كلٍّ من الدّينيّ والدّنيويّ.
على أنَّ اعتدادَنا بإرثنا الفلسفيّ، قديمه وحديثه، وتطلُّعَنا إلى الإسهام في المُنجَز الفلسفيّ العالميّ، يظلّ مرهونًا بمُعالَجة اختلالاتٍ خمسة تطال الدرسَ الفلسفيَّ العربيَّ المُعاصِر، ولا مندوحة عن رفع إشكالاتها:
اختلالٌ أوَّل لجهة الفصل والوصل في علائق الفيلسوف، أو المشتغل بالفلسفة، بالسُّلطة: سلبًا أم إيجابًا.
اختلالٌ ثانٍ لجهة علائق الفيلسوف، والمثقَّف بعامَّة، بالنصّ المقدَّس: تفسيرًا وتأويلًا، إذ نشهد موجاتٍ متتابعة من المدّ والجزر لمَن أَطلق عليهم محمَّد الطالبي (1921-2017) مسمَّى «الإنسلاخسلاميّة»/ «الانسلاخ عن الإسلام»؛ وذلك في سياق نقده بعض الـحداثيّين العرب ممَّن بُنيت أعمالهم على هذا الأساس.
اختلالٌ ثالث لجهة ضعف التكوين الفلسفيّ في الجامعات العربيّة بعامَّة؛ خاصَّة في الدرس الكلاميّ مقارنةً بنظيره في الحوزات الشيعيّة. ناهيك بالجهل بالتراث الإسلاميّ على مستوى دوائره الثلاث: علوم الآلة، علوم الغاية، علوم الحِكمة، وانعدام ثقافة التحقيق لدى كثير ممَّن يتصدَّون لتدريس الفلسفة.
اختلالٌ رابع لجهة تضخُّم الأنا وغياب النَّزعة النقديّة في المناهج التعليميّة، فضلًا عن الإغراق في النَّزعة الماضويّة. وقد سبقَ للحكيم الترمذيّ أن انتقدَ طَلَبَةَ العِلم في عصره قائلًا: «وحاصل أحدهم لا يزيد عن ألف مسألة في أصول الدّين، حتَّى إذا تأكَّدت رياسةُ الواحد منهم، وجدتَه في آخر أمره جبَّارًا عتيًّا».
ولا يقتصر الأمر، في واقع الأمر، على الصغار دون الكبار ممَّن تنطبق عليهم، وفيهم، مقولةُ الحسين بن منصور الحلَّاج في شيخه الجُنيّد البغداديّ: «منزلة الرجال تُعطى ولا تُتعاطى، وليس له إلَّا الشيخوخة».
اختلالٌ خامس لجهة آليّة الالتحاق الميكانيكيّة المُعتمَدة في جلّ الجامعات العربيّة في أقسامِ الفلسفة وفقًا لمجموع الطالب الدراسيّ في مرحلة الثانويّة.
وتبعًا لذلك، ابتُليت أقسامُ الفلسفة بجحافل من الطلبة الكارهين لها، المُتعاطين مع السنوات الدراسيّة ككابوسٍ يجب احتمالُه للحصول على الشهادة الجامعيّة ليس إلَّا. ناهيك بالهوَّة الفاصلة بين مُخرجات هذا التحصيل العلميّ، على بؤسه، ومتطلّبات أسواق العمل؛ فضلًا عن البنية التسلّطيّة – إلَّا في ما ندر – التي تَحكم علاقة الأستاذ بطلَّاب الدراسات العليا.
ونتيجةً لتلك الاختلالات الخمسة، وغيرها بالطبع، بقيَ الدرسُ الفلسفيّ العربيّ يُراوِح مكانه، كأنَّه يدور في دائرةٍ مُغلَقة، فإذا بالموضوعات القديمة/الجديدة تتكرَّر، وإذا بالإبداع ينضُب، وإذا بالفوات التاريخيّ يتعمَّق، وكما يقول ابن خلدون: «متى توقّفتِ العبقريّةُ، وتعطَّل الطموحُ، وتقلَّصت التطلُّعاتُ، توارى النُّورُ، وأَفلَ الأملُ، وحكمَ الأمواتُ الأحياءَ»!
*كاتب وباحث من مصر
* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.