مجاهد عبدالمتعالي

كتبت مقالًا بعنوان: (إنها تراجيديا الأدب ودراما السوق) تحدثت فيه عن رواية لأسامة المسلم، وفق معطيات الأدب التجاري وحركة السوق منذ كتب الصحوة وحتى الآن، وسأحاول هنا تناول زاوية لا تهتم بأسامة المسلم، بقدر اهتمامها بما أنتجته هذه الظاهرة من (نخبجية)، وهنا لا بد من توطئة: أولًا وثانيًا... وعاشرًا أؤكد أن موقفي من (الأدب) هو تقريبًا موقف علي الوردي نفسه في كتابه (أسطورة الأدب الرفيع) وانحيازه الكامل لكل ما هو (شعبي) ووقوفه ضد التكلس والجمود، وعليه فأنا أقف مثلًا مع (هاجر سعود) في كتابها (سفر اللا معنى) إضافة إلى مجموعتها القصصية بعنوان: (مأساة أن تكون جادًا) والتي قد نرى فيها ما حكاه علي الوردي بعنوان (غربة أديب) ص222 من كتابه المشار إليه.

هذه المقدمة أستطيع من خلالها استئناف الحديث عن لوازم ظاهرة عالمية اسمها (الشعبوية) وقد جرى مناقشتها في مؤتمر «تعريف الشعبوية» الذي عقد في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية عام 1967 حيث حذرت إيزيا برلين Isaiah Berlin في المؤتمر من أن «صيغة واحدة لتغطية الشعبوية في كل مكان لن تكون مفيدة للغاية» وأنه «يجب ألا نعاني من مجتمع سندريلا، والذي أعني به ما يلي: أن هناك حذاءً ــ كلمة الشعبوية ــ التي يجب أن توجد قدمٌ لها في مكان ما» للاستزادة: وفاء علي داود في بحثها «الشعبوية المعاصرة في تونس...» بمجلة الدراسات السياسية والاقتصادية ــ كلية السياسة والاقتصاد ـ جامعة السويس العدد الأول السنة الثالثة، أبريل 2023 ص233. ثم جذبني إلى مصطلح (الشعبوية) أيضًا بيير أندريه تاجوييف Pierre-Andre Taguieff حيث يفرق بين الشعبوية والديماغوجية، حيث إن الديماغوجية تهدف إلى تضليل الآخرين، بينما الشعبوية تبدأ بتضليل نفسها، إنه خطاب ممتد من السياسة إلى الأدب يتمظهر بشكل مباشر أو غير مباشر في حقيقة واحدة: أنه (ضد النخبة)، ولهذا فمساق ظاهرة أسامة المسلم يدخل ضمن نطاق (الشعبوية) التي لا علاقة لها بالشعبي الذي دافع عنه علي الوردي في كتابه (أسطورة الأدب الرفيع) وما جعلني أكتب هذا المقال هو بروز ظاهرة (النخبجية) من ضئضئ (الشعبوية)، وهنا أحتاج إلى توضيح أكثر وفق التالي: النخبجية مرتبطة بالشعبوية، بينما النخبة مرتبطة بالشعبي، فكل ما هو شعبي في تراكمه الكمي الحر يخرج تغيره النوعي الذي نصفه بالنخبوي/من النخبة، فمن ذا الذي يقول إن نجيب محفوظ في كثير من أعماله ليس شعبيًا، بل سأورد أمثله شعبية محسوبة على النخبة ولو لم تقل ذلك فمحمد شكري في «الخبز الحافي» أو جان جينية في «يوميات لص» أو حتى تشارلز بوكوفسكي شاعرًا وروائيًا وكاتب قصة من قاع الشعب الأمريكي، الذي سأقف مع أدبه الشعبي ضد شعبوية دان براون في شيفرة دافنشي، والنخبة هنا صلبة (في الشرق أو الغرب) فتنحاز إلى الشعبي كقاعدة أصيلة لإبداعها وجدارتها الأدبية، ولكنها قطعًا تقف ضد كل ما هو شعبوي هش فاقد للأصالة لكنه سهل بسيط مشوق (ممتع ومسلي فقط)، ولهذا تضطر الشعبوية إلى إفراز نخبجيتها التي تدافع عنها وتعلي من شأنها... لكنها النخبة الصلبة شرقًا أو غربًا التي لا يعنيها واقع السوق التجاري في الأكثر مبيعًا، بقدر ما يعنيها حقيقة النقد في الأكثر إبداعًا وأصالة.

بماذا تختلف النخبجية عن النخبة؟ النخبجية تستطيع الكتابة عما لم تقرأ كأنها قرأته، وعما لم تسمع كأنها سمعته، وعما لم تفهم كأنها فهمته، عرفتها قبل أكثر من ربع قرن وأنا في أوائل العقد الثاني من عمري، حيث زرت أحد الأندية الأدبية ببراءة شاب متحمس ومتحفز للقاء (النخبة الثقافية!)، فوجدتهم بالعشرات فعلًا، ولكن المثقفين منهم لم يتجاوزوا عدد أصابع اليد الواحدة والباقي كما هم حتى الآن مجموعة من (أرامل الصحوة/الأدب الإسلامي، أرامل الأكاديمية/حافظ غير فاهم) وهم الآن مستودع جاهز للشعبوية تستمد منه (نخبجيتها) وحتى (وطنجيتها).

سافرت والتقيت مثقفين عربًا كبارًا، وكان الفارق بين النخبة والنخبجية شاهقًا، فالنخبة المثقفة يغمرك تواضعها لكن تراكماتها عبر السنين من (النصال على النصال) يجعلها تتقن فن الحيز والمسافات الآمنة، حتى محمود درويش ــ الموصوف بالطاووسية ــ إذا صادف روحًا صادقة فسيكون كما كان مع الصحفي السعودي الشاب عام (1997)، راجع علي مكي (علمانيون وإسلامويون: جدالات في الثقافة العربية) ص25، 36.

لن أطيل على القارئ وسأكون مباشرًا وواضحًا: إني أقف مع سعد البازعي في محاربته للنخبجية التي تميل حيث مالت الريح ــ ليتها تنحني للريح وتصمت ــ بل تميل مع الشعبوية حيث مالت، فهي دائمًا في (مهب الريح) وتقتات على ذلك بدعوى الانحياز (للشعبي/المليء بالتجاعيد) بينما النخبجية في حقيقتها انتماء (للشعبوي/المليء بالبوتكس)، وموقفي الذي أقفه مع البازعي ليس (شللية ثقافية)، ففي بعض مقالاتي (أختلف بحِدَّة) مع بعض أطروحاته وأحد كتبه، فوقوفي إذن هو وقوف مع (النخبة) التي لا تهزها ريح الشعبوية ولا هجمات نخبجيتها، فالنخبجي مثله مثل (الوطنجي) من ظواهر (الشعبوية)، فالوطني عينه على مفاهيم (المواطنة) مستقبلًا لأبنائه وأحفاده، والوطنجي عينه على غنيمته في (الرياء) الصارخ باسم الوطن.

أقف مع البازعي في موقفه المعلن من «ظاهرة المسلم»، وأشكره على جرأته ووقوفه ضد النخبجية، رغم وصمتهم الجاهزة لأي مهاجم لهذه الظاهرة (الشعبوية) فيقولون: هذه غيرة النخبة عندما يأتي شاب فيهز عرشها... إلخ، وفي الحقيقة أن النخبة تغار فعلًا لكن على العقل وتنحاز للعقلانية والمنطق العلمي، بينما الشعبوية قد تخرج على شكل رواية أو سياسة ليكتشف توفيق الحكيم متأخرًا (عودة الوعي)، فالعقلانية طيلة تاريخها كانت إحراجًا للناس بضرورة استخدام العقل، ولهذا هاجت الكنيسة في عصور الظلام عليها، والآن تهيج الشعبوية للسبب نفسه، وأسباب أخرى: (ليس المقال مخصصًا لها).

أخيرًا: يبقى ظني قائمًا وفق قراءتي المتواضعة في علم الاجتماع السياسي أن (الشعبوية) قضية انشغل بها المفكرون السياسيون منذ ستينيات القرن الماضي كظاهرة ناشئة، وهي الآن مزدهرة عالميًا، وقد أنتجت نخبجيتها في كل مجال، ووطنجيتها في كل بلد، بل ورموزها السياسية (شافيز، أردوغان... والآن ترمب نموذج أعلى)، وهي في المضمر حركة ضد النخبة بأنواعها، وذكاؤها يكمن في دفع الشعبي المؤطر، إلى أقصى الشعبوية باعتبارها (ثورة على الإطار) وفي التفاصيل يكمن شيطان (الفوضى الخلاقة).... ولو بعد حين.