سؤال استبد بأذهان أسلافنا حينما اقتحم التمثيل بعض أقطار الشرق العربي، في النصف الأخير من القرن الماضي، فلم يلق غير إجابات متباينة، كل منها يستمد معينه من وجهة نظر السائل، فلم يكن عجيبا أن ينظر الجمهور إلى هذا الفن الجديد الوافد إليهم من الغرب نظرة التوجس والحذر.
وقد غشى أسلافنا دور التمثيل القليلة بدافع الفضول، فوجدوها مستقرة في أوكار الرقص والمجون، وشاهدوا التمثيل فلم يلفت نظرهم منه غير أستار ملونة وأضواء تتراقص، ورجال يلبسون أزياء غريبة، وقد علت الأصباغ وجوههم، وهم تارة ينشدون ويرقصون، وتارة أخرى يتكلمون ويتضاحكون، وبين هؤلاء الرجال من يمثل أدوار النساء، هذا والحوار الذي يجري على ألسنة الممثلين لا يختلف في أسلوبه عما يجري على ألسنة الناس في مجالسهم... حوار ليس فيه نهي بالعبارة الصريحة عما لا يصح أن يكون، أو ترغيب فيما يصح أن يأخذ به الناس في معاملاتهم..
ثم من هم هؤلاء الممثلون ؟! إنهم في جملتهم من نفايات المجتمع، وفي أقليتهم ممن خفت مؤونتهم من التعليم، والخلق المستقيم.. فإذا أسلافنا يكادون يجمعون على أمر.. فالمتزمتون منهم يرون في هذا الفن رجسا من عمل الشيطان، والمعتدلون يرون أنه لون من التسلية العابثة، وأنه لا يجمل بأهل الجد والوقار أن يعيروه اهتماما، أما طلاب اللهو والمتعة فوجدوا فيه جديدا يجمع في صعيده بين الغناء والرقص والكلام الفصيح..
وإلى جانب هؤلاء ارتفع همس من جانب بعض الأدباء التقدميين يؤكد أن هذا الفن، وإن كان ظاهره لهوا وتسلية، إلا أن باطنه تهذيب وتقويم، غير أن هذا الهمس لم يلق آذانا صاغية.
هذا هو المفهوم الأول لفن التمثيل بالشرق العربي عند قيامه، أي منذ ما يقرب من ثمانين عاما، وفي الحق أن فن التمثيل يبدو أمرا غامضا ومحيرا لدى من يأخذ الأشياء بظواهرها، أو عند من لم يمتد أفقه الثقافي إلى خارج حدود الأدب العربي المتوارث.
إن مجالات التثقيف والتهذيب، كما ألفها العرب، إنما كانت الكتاب وقاعات الدرس، وحلقات الوعظ والإرشاد والأسلوب البياني في كل هذه المجالات كان يجري تقريريا ومباشرا، يعد ويرغب أو يوعد وينهى، ويستعين على تأكيد هذا بالحكم والأمثال المأثورة، ثم جاءت المسرحية - وهي مادة فن التمثيل - على أسلوب آخر.
إنها صور متتابعة لقطاع يختاره مؤلف المسرحية من الحياة الواقعية، أو من حياة التاريخ، تعكس ما يختمر فيه من صراع بين قوى الخير والشر. وتجمع بين هذه الصور وحدة شاملة بحيث تمهد كل صورة لما يأتي بعدها، دون أن تكون مستقلة بذاتها، لأنها جزء من كل. ومن هذه الصور مجتمعة يتألف موضوع المسرحية، إلى أن تأتى النهاية، فإذا الخير يصرع الشر، وإذا الحق يدحر الباطل. هذا والحوار لغة المسرحية - وهو يجري على ألسنة أشخاصها كما لو كانوا في الحياة الدنيا، حوار يومئ ويسير ويوحي، من غير أن يستعمل عبارات الأمر والنهي... تاركا لحوادث المسرحية أمر النهي أو الترغيب، فالمسرحية، بحكم ما تقدم، توجه، وتهذب، وتقوم بحوادثها ومواقفها، وليس بمجرد حوارها، فالدرس والموعظة يستخرجهما المتفرج.. استقبال هذه الحوادث وما تنتهي إليه، ويتم التأثير بأن يعيش المتفرج التجربة التي يمر بها أبطال المسرحية، ومعنى هذا أن المسرحية تعلم الحياة بعرض صور من الحياة، وتجعلك تتعمق الحياة، ثم تتعرف إلى نفسك عن طريق تفهم هذه الصور، ثم بموقفك منها ومن أشخاصها، فإذا سخرت من تفاهاتهم أو نقائصهم، أو حزنت لمصارعهم، فأنت من غير وعي، إنما تسخر مما عسى أن تكون عليه أنت من هذا وذاك، أو أنت تأسى لأنك على خلق قد ينتهي بك إلى مثل هذا المصرع الأليم. هذا اللون من التهذيب أو التوجيه غير المباشر، والذي يقوم على الإيحاء والاستثارة اللاشعورية، لم يكن يوما من مفهوم العرب في أدبهم وفنونهم، ومن هنا جاء هذا اللبس الذي أحاط بماهية فن التمثيل.
1959*
* كاتب وأحد رواد المسرح المصري «1894 - 1982»
وقد غشى أسلافنا دور التمثيل القليلة بدافع الفضول، فوجدوها مستقرة في أوكار الرقص والمجون، وشاهدوا التمثيل فلم يلفت نظرهم منه غير أستار ملونة وأضواء تتراقص، ورجال يلبسون أزياء غريبة، وقد علت الأصباغ وجوههم، وهم تارة ينشدون ويرقصون، وتارة أخرى يتكلمون ويتضاحكون، وبين هؤلاء الرجال من يمثل أدوار النساء، هذا والحوار الذي يجري على ألسنة الممثلين لا يختلف في أسلوبه عما يجري على ألسنة الناس في مجالسهم... حوار ليس فيه نهي بالعبارة الصريحة عما لا يصح أن يكون، أو ترغيب فيما يصح أن يأخذ به الناس في معاملاتهم..
ثم من هم هؤلاء الممثلون ؟! إنهم في جملتهم من نفايات المجتمع، وفي أقليتهم ممن خفت مؤونتهم من التعليم، والخلق المستقيم.. فإذا أسلافنا يكادون يجمعون على أمر.. فالمتزمتون منهم يرون في هذا الفن رجسا من عمل الشيطان، والمعتدلون يرون أنه لون من التسلية العابثة، وأنه لا يجمل بأهل الجد والوقار أن يعيروه اهتماما، أما طلاب اللهو والمتعة فوجدوا فيه جديدا يجمع في صعيده بين الغناء والرقص والكلام الفصيح..
وإلى جانب هؤلاء ارتفع همس من جانب بعض الأدباء التقدميين يؤكد أن هذا الفن، وإن كان ظاهره لهوا وتسلية، إلا أن باطنه تهذيب وتقويم، غير أن هذا الهمس لم يلق آذانا صاغية.
هذا هو المفهوم الأول لفن التمثيل بالشرق العربي عند قيامه، أي منذ ما يقرب من ثمانين عاما، وفي الحق أن فن التمثيل يبدو أمرا غامضا ومحيرا لدى من يأخذ الأشياء بظواهرها، أو عند من لم يمتد أفقه الثقافي إلى خارج حدود الأدب العربي المتوارث.
إن مجالات التثقيف والتهذيب، كما ألفها العرب، إنما كانت الكتاب وقاعات الدرس، وحلقات الوعظ والإرشاد والأسلوب البياني في كل هذه المجالات كان يجري تقريريا ومباشرا، يعد ويرغب أو يوعد وينهى، ويستعين على تأكيد هذا بالحكم والأمثال المأثورة، ثم جاءت المسرحية - وهي مادة فن التمثيل - على أسلوب آخر.
إنها صور متتابعة لقطاع يختاره مؤلف المسرحية من الحياة الواقعية، أو من حياة التاريخ، تعكس ما يختمر فيه من صراع بين قوى الخير والشر. وتجمع بين هذه الصور وحدة شاملة بحيث تمهد كل صورة لما يأتي بعدها، دون أن تكون مستقلة بذاتها، لأنها جزء من كل. ومن هذه الصور مجتمعة يتألف موضوع المسرحية، إلى أن تأتى النهاية، فإذا الخير يصرع الشر، وإذا الحق يدحر الباطل. هذا والحوار لغة المسرحية - وهو يجري على ألسنة أشخاصها كما لو كانوا في الحياة الدنيا، حوار يومئ ويسير ويوحي، من غير أن يستعمل عبارات الأمر والنهي... تاركا لحوادث المسرحية أمر النهي أو الترغيب، فالمسرحية، بحكم ما تقدم، توجه، وتهذب، وتقوم بحوادثها ومواقفها، وليس بمجرد حوارها، فالدرس والموعظة يستخرجهما المتفرج.. استقبال هذه الحوادث وما تنتهي إليه، ويتم التأثير بأن يعيش المتفرج التجربة التي يمر بها أبطال المسرحية، ومعنى هذا أن المسرحية تعلم الحياة بعرض صور من الحياة، وتجعلك تتعمق الحياة، ثم تتعرف إلى نفسك عن طريق تفهم هذه الصور، ثم بموقفك منها ومن أشخاصها، فإذا سخرت من تفاهاتهم أو نقائصهم، أو حزنت لمصارعهم، فأنت من غير وعي، إنما تسخر مما عسى أن تكون عليه أنت من هذا وذاك، أو أنت تأسى لأنك على خلق قد ينتهي بك إلى مثل هذا المصرع الأليم. هذا اللون من التهذيب أو التوجيه غير المباشر، والذي يقوم على الإيحاء والاستثارة اللاشعورية، لم يكن يوما من مفهوم العرب في أدبهم وفنونهم، ومن هنا جاء هذا اللبس الذي أحاط بماهية فن التمثيل.
1959*
* كاتب وأحد رواد المسرح المصري «1894 - 1982»