محمد علوان

يرسم لنا الكاتب التركي (ياشار كمال) في روايته المشهورة المليئة بالعذوبة والصدق والعفوية والمسماة بـ (ميميد الناحل) صورة الأغنية، أي أغنية، دون تحديد للزمان أو المكان فيقول: «تغنى الأغنية وهي ليست نفسها إذا غنيت مساء أو صباحًا، وإذا غناها صبي فهو شيء آخر وكذلك الأمر إذا غنتها امرأة وتتغير تبعًا للذين ينشدونها شبابًا أكانوا أم شيوخًا. وهي ليست نفسها في الجبل أو السهل في الغابة أو على البحر، إنها تتبدل كل مرة، وهي ليست نفسها في الصباح أو الظهر أو بعد الظهر أو المساء».

قرأت هذه الفقرة عشرات المرات وأنا أتخيل العلاقات المتمازجة المتماسكة التي تتحكم في الأغنية، وبالتالي فهي تتحكم كقانون بالنسبة للفن. عمومًا إذا أخذنا الموضوع برؤية أكثر اتساعا ففي هذا المقطع أو هذه الفقرة يحدد الروائي المكان وأثره في نوعية الغناء؛ فالغناء بقرب البحر يأخذ الكثير من صفات البحر وهدوئه وصخبه. زبده الأبيض ومياهه الزرقاء، والغناء في الجبل يأخذ هذا العلو والانخفاض المفاجئ، هذه الصلابة والشموخ.

الغناء في الصحراء يأخذ نمطًا بطيئًا وإيقاعًا أقل توترًا لأن العلاقة مع الصحراء هي علاقة النفس الطويل، حيث هذا الاتساع الموحش، وهذا الهدوء المخيف، وهذه الرؤية الكاملة المتسعة التي لا يفاجئك فيها أي شيء. هذا الاتساع وهذا الهدوء تسللا إلى الأغنية في الصحراء فمنحاها هذا الإيقاع البطيء.

وهنا في هذا الوطن تتعدد الأغنيات. تتعدد الرقصات بشكل يوضح أو ينطبق عليه حديث (ياشار كمال) تمامًا. فعندما نشاهد رقصة السامري ونسمع هذا الغناء الجميل الشجي الذي أطرب له شخصيًا ندرك بعد الصحراء، في السامري كما أعرف لا بد من الطار رفيقا تتحدث إليه الكفوف والجسم بإيقاع متمازج. هذا الحقل الذي يتدفق من الكف وهي تضرب بهدوء متتابع حتى ليخيل إليك أن هذه المجموعة قد هادنت هذه الطبول شيئًا فشيئًا، لكن الصحراء هذه على الرغم من امتدادها الذي يوحي لك بالثقة والأمن، إنما هي في الواقع ثقة مؤقتة وأمن لا تلبث الريح والغبار أن يقلب الموازين، يتسلل ذلك الوضع إلى الأغنية إلى السامري لتجد هذه الأكف ترتفع بكل القوة وتضرب ليصرخ الدف - تحت وقع الأكف - والأجساد ثم يعاود الهدوء مرة أخرى لتحمل الأكف هذه الدفوف في شكل اعتذار جميل صامت لكنه أكثر إيحاء وأكثر وقعًا في الأنفس.

الأغنية لدينا حينما تقترب من البحر تصبح.. خوفًا.. ورعبًا وأملًا مشوبًا بالحذر، حديثا مع القدر المجهول الذي ربما يمنحك الخير واللؤلؤ وربما يمنحك الموت والأصداف، الغناء البحري أشبه بالأدعية ولوعة حزن تأسر القلب ولا تجعل له مهربا أو ملاذا إلا هذا القارب وهذا الموج الجميل القاتل. الحديث عن الأغنية هو حديث عن البدوي في الصحراء والمزارع خلف محراثه والصياد وراء أمله الذي لا ينقطع، نحن بحاجة إلى الرقص والأغنيات في زمن الحرب والاغتيال وبنايات الإسمنت المسلح، نحن في حاجة إلى الغناء والبكاء الجميل، الأغنية تحيلك إلى إنسان آخر، تخلق فيك تحدي الأشياء لا سيما إذا كانت تصدر من قلب يحب الناس والأرض، الغناء مرتبط بتراث الوطن.

ولنسمع جميعًا هذا النواح للشاعر الفلسطيني الجريح الذي يزيده فقد وطنه غناء ونحن نملك الأوطان لكن لا نغني: (نمشي لكن لماذا لم تقل لي كل شيء عن عناقيد العنب بلد أتى.. بلد ذهب سيأتي ثم يذهب. كم مدينة ترمي على المحتل زنبقها وراءك؟ كم سماء سوف نسقف في القصائد ما ليس لك هو ليس لك؟ نمشي لنمشي ثم نمشي.. إن وجدت وحدك لكن ليس لك، وعليك أن تعلو على شرفات جرحك كي ترى ما لا تراه، صف لي مساءك كي أرى قلبي وأتبعه).

1985*

* أديب وصحافي سعودي «1950- 2023»