أبها: عوض فرحان

أخذت إقامة المناسبات الاجتماعية المختلفة، خاصة مناسبات الأفراح منحى خطيرا من الإسراف والتبذير، وظهر ذلك جليًا هذا الصيف في مختلف مناطق المملكة، فلم تعد الولائم تقتصر على ذبيحة واحدة أو اثنتين فقط، وإنما وصلت إلى أن تكون «قعدان» وعدة خرفان في كل صحن، حتى في ولائم لا يتجاوز ضيوفها عدد ذبائحها.

وقاد هذا «الإسراف» عددا من مشايخ وأعيان المجتمع إلى ضرورة المطالبة بميثاق أو مبادرة للحد منه، بعدما تحوّل إلى ظاهرة اجتماعية خطيرة امتدت تأثيراتها السلبية إلى حد عزوف الشباب عن الزواج، وارتفاع أسعار المواشي، وقصور الأفراح.

كما امتد الإسراف إلى جعل ولائم المناسبات مصحوبة بتغطيات مصورة، وشعراء للمدح والثناء، على الرغم من قلة المدعوين أحيانا والذين يمكن حصرهم بعدد أصابع الدين.



تعمد التبذير


المُوثق لتاريخ منطقة عسير، المستشار بندر بن عبدالله آل مفرح، رأى أن الأمر ينقسم إلى قسمين:

أولهما: ما يحدُث في (بعض المُناسبات) من تعمُد الإسراف والتبذير، وهو أمر مؤلم ويُنذر بخطر مُحدق، لكونه من الكفر بالنعم، والأشد إيلامًا حضور المشايخ والوجهاء لتلك الولائم، وهم الذين يُنتظر منهم خير للتصدي لمثل هذه الأمور ووأدها قبل استفحالها.

وثانيهما: ما يحدُث في (بعض) المناسبات المُجتمعية من تفشي ظاهرة المديح والتلميع للبعض، وهو أمر دخيل، حيث كثُر الشعراء المداحون، وكُثرت الشخصيات التي تعشق المديح، مع أننا مجتمع يعرف بعضه بعضا، وقال «سؤالي للشُعراء المدّاحِين وللممدوحين ماذا تركتُم لقدوات المُجتمع ممن يستحقون المدح فعلا، وماذا تركتم لولاة الأمر، ولحفظة كتاب الله، والشُهداء، والمُرابطين، والأبطال، والموهوبين، وحُماة الوطن».

وأضاف «إن استمرار فئة من الشُعراء وأصحاب الشيلات المُتنفعين بالتلميع والإشادة بأشخاص لا يستحقون؛ من شأنه تعمُد خلخلة النسيج الاجتماعي، وإشهار من لا يستحق، والعبث بتركيبة المُجتمع، وتفشي ثقافة هابطة تُبنى عليها مفاهيم خاطئة، ولعلي أُسلط الضوء على فئة اعتادت الحضور لمثل هذه المناسبات بدعوة ودون دعوة بهدف الظهور والإدمان على الولائم، وهي فئة زاد نشاطها وحضورها، وباتت بمثابة التشوه البصري والسمعي».

وختم «نحن في مجتمع يرفُض ويِلفظ المدّاحين والمتلونين والمتنفعين والمهايطين، ونقول لهم يكفي تشهيرًا بأنفسكم، ونصيحتي للشعراء التعقل والاتزان وقراءة المشهد الاجتماعي تمامًا، وأخذ الرأي والمشورة من الثقات قبل حضور أي مناسبة، فما ينطقون به يؤجرون به أو يلامون عليه، ونأمل رؤية مناسبتنا ومجالسنا خالية من التشوهات والمنغصات، وعلى القدوات من مشايخ شمل القبائل والمشايخ ورموز المُجتمع القيام بمسؤولياتهم تجاه ما يحدث، وألا يكونوا شُركاء فيها من قريب أو بعيد».



مظاهر الإسراف


يؤكد الدكتور سعيد مسفر الوادعي، المحاضر السابق في أكاديمية نايف للأمن الوطني وكلية الملك فهد الأمنية، أن مظاهر الإسراف في الزواجات خاصة، والمناسبات عامة، والمبالغة في المعاونات والتفاخر والإسراف في الإطراء والأحساب ما أنزل الله بها من سلطان، وليست من الهدي العظيم الذي ينهى عن الإسراف.

وقد شرّع الزواج في الإسلام لتحصين الفرج والعفة، وإقامة الأسرة التي تحقق الراحة والاستقرار والطمأنينة، وإنجاب الأولاد وتكثير الأمة، غير أن ما يمارس من مبالغات وإسراف في مناسبات الزواجات يتنافى جملة وتفصيلا مع هذه الأهداف السامية، وهي تحد من الزواجات لأن كثيرا من الشباب لا يستطيع إقامة زواج بمثل هذه التكاليف، وإن جازف وتحملها فسيبقى مدينا وبالتالي لن يتوفر له الاستقرار لأن الديون تثقل كاهله.

وقال «ما يشاهد من بعض الحضور في الزواجات من خطب رنانة ومباهاة وتفاخر فيما يُقَدَّم من إعانات، كلها من التباهي والتفاخر، وهي من دعوى الجاهلية، ولا بد من تحرك رسمي لوضع حد لهذه المبالغات والتفاخر والتباهي بالأحساب والأنساب، وكذلك من خلال دور أعيان القبائل، أهل الحل والربط لوضع حدود وضوابط تحد من هذه المبالغات والإسراف غير المرضي».



أبحاث ودراسات


شدد الدكتور مسفر أحمد الوادعي، عضو هيئة التدريس بجامعة الملك خالد، الرئيس التنفيذي للكلية التطبيقية بظهران الجنوب، على أهمية دور المركز الوطني للدراسات والبحوث الاجتماعية في دراسة هذه الظواهر وأسبابها والحلول المناسبة لها، ودعم صنع القرار للحد من انتشارها، خصوصا أن القيم والأخلاق والعادات والتقاليد مرتكز حيوية المجتمع السعودي؛ وقال «من المؤسف ما يُلاحظ اليوم من انحراف في مسار تلك العادات لتصبح مساقات للكبر والفخر المذموم والتوشح بأثواب الزور والبهتان، وتمشيخ الصغار على الكبار، والعبث بالنعم والاعتداء عليها بالهدر والتبذير تحت ذريعة الكرم الزائف، وبمباركة من بعض مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي، والعبث بالأسلحة والأعيرة النارية بذريعة الاحتفاء والترحيب غير المقبول، ودفع مبالغ طائلة للشعراء للمديح الكاذب، وإحياء نعرات الجاهلية والأمجاد الغابرة المبنية على ما لا يحمد، وغيرها من المساقات الدخيلة على المجتمع السعودي وثقافته وقيمه النبيلة».

وأكد على دور وزارة التعليم بتعليمها العام والجامعي والفني والتدريب التقني باعتبارها جهة تصنع الجيل وترعاه وتعده، حيث يمكنها تنفيذ برامج توعوية ومناشط معززة للقيم والأخلاق، وإجراء جلسات حوارية لمناقشة هذه الظواهر وإشراك الطلاب والطالبات في عملية معالجتها وتفعيل أدوراهم في التوعية والتوجيه لأقرانهم وذويهم، والتأكيد على المعلمين والمعلمات بضرورة تجسيد القدوة الصالحة للطلاب، فالعلم يدرك بالبصائر، والأعمال تدرك بالأبصار، والناس كأسراب القطا يتبع آخرهم أولهم.

وأضاف «كذلك هناك دور للجمعيات الأهلية التنموية في تبني برامج توعوية وإرشادية تركز على عزيز مكارم الأخلاق وجميل العادات في مجتمعنا، والعمل جنبًا إلى جنب مع المؤسسات الأمنية في استصلاح المخالفين والمخالفات».



4 بكار و3 خرفان

من جهته، كشف الدكتور عبدالله بن علي الموسى، أن إسراف البعض في المناسبات الاجتماعية بلغ حد التبذير، وقال «قديمًا قالوا إن الكرم هو حالة وسطية إن زاد عن حده سمي إسرافًا وإن نقص سمي بخلًا، وما نشاهده حاليًا هو الإسراف بعينه، ولك أن تتخيل أن بعضهم وصل حد وضع 4 بكار و3 خرفان في صحن واحد، يتفاخر بها، فيما كان الأولى به توزيعها على 120 صحنا، فالحاشي الواحد يكفي أن يوزع على 30 صحنا».

وأضاف «شهدنا خلال جائحة كورونا تعديل عادات الإسراف في الولائم والزواجات وعقد القران، ‏وشهدنا زواجات وعقود قران ميسرة خففت موجة الإسراف، لكن البعض عاد إليها. وللمعلومية فإن هذا الإسراف إهدار لثروة الوطن، نتج عنه غلاء المواشي وبعض السلع، وتحمل كثير من الناس للديون، وأدى إلى عزوف الشباب عن الزواج أو تأخرهم بالزواج».

وتابع «كما طرأ على مجتمعنا أخيرا عادة «المفطحات» وقد كان أهلنا الأولون يقطعون اللحم، يوزعونه على الضيوف والحضور، بحيث تكفي الذبيحة الواحدة عددا كبيرا من الناس، فيما المفطح لا يمكن تقسيمه إلا على صحنين أو 3، وعند اختيار الذبيحة يسعى صاحبها أن تكون (إليتها) كبيرة فيدفع مقابلها ثمنا أكبر، وكذلك فإن الجالسين على المفطح قد يفوتهم بعض اللحم الجيد وقد يبقى لحم الأرجل لم ينضج، أما الجالسون أمام الذنب فلا يجدون ما يأكلون، فيضطر من هم على المقدمة للتقطيع لهم، وهي طريقة لا يحبذها كثيرون».

وتابع «تقطيع الذبيحة يحقق عدة فوائد، فهي توزع على عدد أكبر من الصحون، ويجد الضيف كل أجزاء الذبيحة في الصحن فيختار ما يحب، ولا يضطر المضيف للتقطيع للضيوف، ولا يضطرون للتقطيع لبعضهم بعضا».

وأكمل «تقطيع الذبيحة يوفر الهدر، وتكون سببا لحفظ النعمة، كما أنه أكثر ملاءمة في ظل هذا الغلاء، ولا يتعارض مطلقا مع الكرم وهي العادة النبيلة التي توارثناها أبًا عن جد لأن الكرم الحقيقي وسط بين التبذير والبخل، ولذا فأنا أطالب شيوخ القبائل والعراف بصياغة اتفاقية للحد من الهدر في الزواجات والولائم».



شعراء ومشاهير للمديح


يقول المستشار عبدالله بن سعد الفصيلي، إنه عاصر زمن الطيبين في الثمانينات الهجرية عندما لم يكن عند الرجل من أهل القرى ما يكرم ضيفه إلا ما يجمله من غنمه ومن منتوج مزرعته، ويضطر أحيانا للبحث عن الذبيحة أو الدقيق من عند جيرانه وجماعته.

وأضاف «جيلي ومن سبقني يتذكر ذلك جيدا، ويحمدون الله عز وجل على ما أنعم به علينا في الوقت الحاضر، ولكن هذا لا يعني أن نسرف ونتجاوز الحد المعقول، ونبذر في المناسبات، ونبالغ فيها، وما يتبع ذلك من إحضار شعراء لمدح الضيف والثناء عليه، وهذا من العادات السيئة التي يجب القضاء عليها ومحاربتها، وعلى الرغم من أن ما قد يقال في الضيف أو المضيف قد يكون صحيحا، إلا أن بعض الشعراء يمدحون مقابل ما يدفع لهم من مال، حتى أن بعضهم يحضر مناسبة وهو لا يعرف الضيف ولا اسمه ولا رسمه فيقول فيه قصيدة عصماء كأنه يعرفه منذ دهر، وكثيرا ما يُنتقد في شعره وتصرفه لأن ما قاله من قصائد قد لا يتفق مع الواقع، وفي هذا إحراج للضيف قبل أن يكون إحراجا للمضيف».

وتابع «يحرص البعض على تصوير هذه المناسبات وما يقال فيها من مدح، وما يقدم فيها من موائد وينشرها في وسائل التواصل الاجتماعي تفاخرا، وإذا قارنا ذلك بما كان يحدث في الزمن الماضي فثمة بون شاسع، فلم يكن هناك مدح ولا ثناء، وكان الضيف يشعر بالارتياح، ويثني على مضيفه دون وسيط من شعراء أو غيره».



الهياط والشباب


يستهجن الدكتور خضران عبدالله السهيمي، عضو هيئة التدريس بكلية التربية بجامعة الملك خالد ما يلاحظ من قبل بعض الشباب، ممن يتقدمون على كبار السن سواء في الكلام وإلقاء خطب محفوظة ومسترسلة، وكذلك مسابقتهم على صدور المجالس، ومن تحريفهم للعادات والتقاليد القبلية التي صارت شعارات للتفاخر على الآخرين، وإذكاء العصبية والطبقية، بما يتحدى الفكر والعقل، وقال «نشوء الطفل على احترام الآخرين، وتقبل اختلافاتهم، وحسن العلاقة معهم، والبعد عن الفوقية الموهومة التي تجعل منه أصلا، ومن الآخرين دخلاء، هو أمر محمود ومطلوب، ينزع منه الاحتقار وتمجيد الذات الموهومة، ويحول دون أن يكون (مهايطا) كبيرا يعيش لذاته لا لمجتمعه!».

وتابع «من الجميل أن نرى أولادنا يحبون عاداتهم وتقاليدهم، ويعيشون تماسكهم المجتمعي، والتربوي، ومن الرائع أن نعلمهم كيف يستقبلون الضيف، ويحتفون بقرابتهم، ويحترمون ما اتفقت عليه أعرافهم القبلية، والمجتمعية».

ـ ولائم الصيف تحفل بكثير من الإسراف والتبذير

ـ الإسراف يدفع مشايخ وأعيان المجتمع للمطالبة بميثاق يحد منه

ـ الإسراف صار ظاهرة تركت جملة من الآثار السلبية

ـ الإسراف لم يقتصر على التبذير بل صاحبه الاستعانة بشعراء المدح

ـ الإسراف بات يوثق بتغطيات مصورة ونشر عبر وسائل التواصل

ـ بعض المشايخ والوجهاء يسهمون بحضورهم لولائم الإسراف في استفحال الظاهرة

ـ تفشي ظاهرة شعراء المدح والتلميع قد يسهم في خلخلة النسيج الاجتماعي وإشهار من لا يستحق.