ظهيرة يومٍ صيفيّ، فوجئ الغادون والرائحون على طريقٍ رئيسة بالعشرات من ظروف الرسائل تتطاير في الهواء.. ليحطَّ بعضُها على الزجاجِ الأماميّ لمركباتهم، وبعضها الآخر على ضفَّتَيْ الطريق.
وفي روايةٍ أكثر تفصيلاً نقلتها الصحف في اليوم التالي: تبيَّن أنّ موظَّفاً للبريد قد أَفرغ أكياس البريد الموكَل إليه مَهمَّة نقلها إلى مركز التوزيع في عرض الشارع. وارتكبَ موظَّفُ البريد هذا الأمر إثر نوبةِ حزنٍ ألمَّت به، وضاقَ بها صدره، وشعرَ معها بتفاهةِ ما يقوم به من عملٍ يتلخَّص في نقْلِ أكياس البريد التي تأتي من نقطةٍ رئيسة إلى مقرٍّ للتوزيع؛ فكان يَستلم كيساً وينقله إلى مقرّ التوزيع، ليأتي بعدها كيسٌ آخر..وهكذا دواليك.
المُذهل في هذه الحادثة، أنّ الرجل، بحسب شهادة زملائه، كان عامِلاً مثاليّاً مُلتزماً بعمله، لم يَغِب عنه أو يتأخَّر طوال سنوات خدمته. لكنْ على ما يبدو في لحظةٍ ما قد شَعَرَ بأنّه منذ أكثر من عقدَيْن لا يقوم بنظامِ عملٍ سوى العمل نفسه من دون أيّ تغيير أو تطوير. ومن دون أدنى شكّ، لم يكُن هذا الموظّف المسكين سيُقدِم على خطأ فادحٍ كهذا لو لم يتملّكه شعورٌ باللّاجدوى والتفاهة بتكراره المستمرّ للعمل ذاته.
هذا التلازم بين العمل واللّاجدوى يتسرَّب في ثنايا الفكر الإنساني عبر التاريخ. ولعلّه يتجلّى في صورته الأكثر وضوحاً في مأساة سيزيف، الأسطورة الإغريقيّة الذائعة الصيت (أسطورة سيزيف)، والتي تحكي عن عقابٍ فريدٍ من نوعه أنزلته الآلهة بـ سيزيف إثر سخريّته منها. والنواة الصلبة لهذا العقاب تنهض على فكرة بسيطة تتلخّص بقيام سيزيف بدحرجةِ صخرةٍ إلى قمّة جبل، وما أن تصل إليها حتّى تعود للتدحرج نزولاً من جديد، ويعود سيزيف إلى دحرجتها مرّةً أخرى إلى القمّة، لتهبط الصخرةُ مرّةً أخرى.. وهكذا ظلَّ دأبُ سيزيف إلى ما لا نهاية.
مفهوم الكدح
يرى رائد فلسفة العبث ألبير كامو في كتابه «أسطورة سيزيف» (1942) أنّ الآلهة «ظنّت أنّه ليس هناك عقاب أبشع من العمل التّافه الذي لا أملَ منه». ثمّة تماهٍ إذاً بين العمل والشقاء الإنساني ترسمه لنا هذه الأسطورة، وحالة موظّف البريد البائس. وللحقّ، فإنّه منذ التأسيس التوراتي للعمل بقاعدة «بِعَرَقِ وجهكَ تأكل خبزاً» تناوبَ العمل والشقاء المعنى نفسه؛ فالجذر اللّغوي لمفردة عمل في اللّغة اللّاتينيّة Tripalium، وهي أداة تعذيب كانت تُستخدَم في صَلْبِ المرء عليها في العصور الوسطى. ومنها اشتُقَّت مفردة عمل في اللّغة الفرنسيّة:Travail، والمعنى نفسه تحمله مفردة عمل في لغاتٍ أخرى.
الصورة المثاليّة للشقاء بالعمل المُفرَغ من المعنى، كما تعرضها الأسطورة اليونانيّة لسيزيف، لا تتجلّى في مفهوم الكدح العظيم بنقْلِ صخرةٍ ضخمة، أو الإحباط الأبدي برؤيتها تهوي للأسفل، بقدر ما تظهر في صورة سيرورة التكرار النهائي والخالي من المقصد. فالأمر عَيْنه يحدث المرّة تلو الأخرى، ولا تتمخّض عنه أيّة نتيجة.
وبذلك فإنّ الحياة الخالية من المعنى لا تعدو كونها حياة تتضمَّن أداء مهامٍّ بسيطة وسهلة إلى ما لا نهاية من دون أيّة نتيجة، ما خلا تكرار الأمر عينه.
إنّ ذلك بكلّ تأكيد هو وصفٌ مصيب للحياة غير الإنسانيّة. فحياة المخلوقات كافّة نراها من حولنا لا تتضمَّن سوى التكرار اللّانهائي، والسلوك نفسه يوماً بعد الآخر، وكلّه من دون أيّة مقاصد ذات تأثيرٍ في العالَم، والمقصد الوحيد هو الحفاظ على النَّوع، والتكاثُر، وولادة أجيال جديدة تُعيد تكرار هذه الحلقة المُفرغة من المعنى.
إنّ طائر السنونو الذي أراه اليوم يفعل الشيء نفسه الذي كان يفعله طائر السنونو الذي كنتُ أشاهده في طفولتي، والأمر عَيْنه كان يراه أسلافنا.
إنّ هذه الأجناس لا تاريخ لها، ومن ثمَّ لا ذاكرة لها أو قدرة على التخيُّل. كلّ جيل منها يَستنسخ مَن سبقه إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً. وهذه الحياة يتلاشى منها المعنى، ويهبط إليها الشقاء لأنّها تفتقر إلى المخيالِ والتخييل. فهل هذه الصورة نجدها أيضاً صورةً للوجود الإنساني؟
بلى، إلى حدٍّ بعيد. وقد أَفلح أدب الديستوبيا «المدينة الفاسدة» في نماذج حاذقة لـ أورويل وهكسلي وبورخيس في أن يدفع هذه الفكرة إلى تخومها القصوى عبر تصوير حيواتٍ مُختلفة في مساقاتٍ متباينة منزوعة الخيال والإرادة تهبط بالإنسان إلى منزلة حياة العجماوات.
صائد السمك
إنّ حياة السواد الأعظم من البشر، حين يُستأصَل منها المخيال والقدرة على توليد طاقة تخييليّة، تغدو مثل طريقة عمل الساعة الميكانيكيّة، تتكرَّر إلى ما لا نهاية. يصحو البشر في حياة كهذه ليُزاولوا العملَ نفسه الذي كانوا يزاولونه بالأمس، ويعيدون فعله في الغد. وفي النهاية يطويهم الثرى من دون أن يخلفوا وراءهم شيئاً ذا قيمة، باستثناء جيلٍ جديد يُعيد تكرار ما كانوا يقومون به.
للمرء أن يتساءل: ماذا لو أنّ ساعي البريد نفسه الذي كان يُبعثر محتويات كيس الرسائل في الطريق العامّة نَظَرَ بعَيْن الخيال إلى الكيفيّة التي تُمكّنه من أن يُغيِّر العمل الذي من خلاله يُغيِّر صورة حياته، وربّما حياة آخرين؟
ولنقدِّم مثالاً على الكيفيّة التي تحيل بها طاقة التخييل العمل إلى صيغةٍ جديدة للحياة:
يتجلّى هذا الأمر على نحوٍ باهر في رواية «الصبر الحارق» للروائي التشيلي أنتونيو سكارميتا الصادرة في العام 1985 في بيونس آيرس. وتحوَّل جزءٌ من الرواية نفسها إلى عملَيْن سينمائيَّيْن، وصدرت منها طبعة بالإنكليزيّة تحمل عنواناً مباشراً «ساعي البريد».
في الرواية الأصليّة يتّخذ فتىً يُدعى ماريو خيمنيز وظيفة ساعي بريد في إحدى قرى تشيلي. وهو ابن صائد للسمك هربَ من حتميّة تحوُّلِه إلى نسخةٍ عن أبيه فقرَّر أن يعمل في وظيفة ساعي بريد، إذ إنّ صائد السمك يصحو كلّ يوم عند الفجر، ويُبحر في قاربه عائداً قُبيل الغروب، ومعه ما يجود به البحر من غنيمة.
لكنّ الوظيفة التي طمحَ إليها الفتى كانت تتلوَّن بشتّى صنوف المشقّات، إذ لم يستقرّ عليها الكثير ممَّن سبقوه إليها. أولى هذه المشقّات: أنّ ساعي البريد يتحتّم عليه حمْلُ كميّة هائلة من البريد على ظهره يوميّاً ولمسافةٍ طويلة، وثانيها أنّه يقصد كلّ يوم وجهةً واحدة، ويُقابل شخصاً واحداً. وبذلك فهو لن يرى وجوهاً جديدة، أو يزور وجهاتٍ متنوّعة. وفي حقيقة الأمر فإنّ هاتَيْن الحقيقتَيْن تشكّلان عنصر التكرار المُملّ عينه الذي اشتكى منه سيزيف.
لكنّ الفتى يتغلّب على هذه الصعوبات في العمل عن طريق توظيف الفضول بوصفه القوّة المحرّكة للخيال. فيشرع أوّلاً باستغلال راتبه الأوّل في الخروج من القرية نحو العالَم الأكبر: المدينة؛ بكلّ ما فيها من مقوّماتٍ حياتيّة واحتمالاتٍ تَستبشر بمستقبلٍ أفضل.
هناك، في المدينة.. يتسلّل إلى العالَم الأكبر برحابته واتّساعه من خلال مشاهدته الأفلام العالميّة في السينما، ويرى عبر الشاشة بأمّ عَينه عالَماً واسعاً، جميلاً وثريّاً كما تُصوِّره هوليوود أو السينما الأوروبيّة.
وحين يكتشف الفتى أنّ مقصده اليومي هو منزل شاعر تشيلي العظيم بابلو نيرودا، ينبجس خياله عن فكرة اقتناء ديوان شعر لـ نيرودا، والطلب من الشاعر التوقيع عليه. ورأى بأنّ تلك فرصة سانحة لا تُتاح لكثيرين، وستَجعله حتماً من القلائل الذين يملكون ديواناً مَمهوراً بتوقيع الشاعر الحائز على جائزة نوبل بخطّ يده. ويكفيه التجوال في المدينة حاملاً هذا الديوان الذي أهداه إيّاه بابلو نيرودا نفسه.
هذا الخيال الجامح للفتى جَعَلَهُ يمدّ جسراً للصداقة مع الشاعر الكبير، وأَتاح له أن يتعلّم على يدَيْه أولى الدروس في تذوُّق الشعر. وتلك الدروس التي خصَّه بها نيرودا ستكون لاحقاً بمثابة مَهر الارتباط بفتاةِ أحلامه الجميلة.
الخيال عَيْنه الذي جَمَعَ الفتى ونيرودا سوف يَنسج دَوراً مُهمّاً للأوّل في حياة نيرودا؛ إذ بعد الإطاحة بحُكم سلفادور أليندي في أيلول/ سبتمبر 1973، وُضع نيرودا رهنَ الاعتقال المنزلي، وتحت الحراسة؛ ما جَعَلَ وصول الرسائل إليه ضرباً من المستحيل. لكنّ الفتى ماريو يتلقّى رسائل نيرودا، ويحفظها، ومن ثمّ ينقل مضمونها إلى نيرودا شفاهاً عند زيارته له، وذلك ما يَسَّرَ فرار نيرودا إلى أوروبا لاحقاً.
هكذا، فهذه الوظيفة المُملَّة التي هَجرها كثيرون نَفَخَ فيها الفتى القرويُّ ماريو خيمينيز روح الخيال؛ فهيَّأت له قنطرة صداقة مع واحدٍ من أعظم شعراء الإنسانيّة.
قد يكون العمل الذي نقوم به بحاجة إلى أن نَجعل منه حكاية شخصيّة تروي جزءاً أصيلاً وجوهريّاً من حياتنا؛ فنكون، والحال كذلك، قادرين، ولو بعض الشيء، على الاقتراب من جوهر وجودنا، وهو: المعنى. *كاتب من الكويت
* ينشر بالتزامن مع دورية افق الإلكترونية.
وفي روايةٍ أكثر تفصيلاً نقلتها الصحف في اليوم التالي: تبيَّن أنّ موظَّفاً للبريد قد أَفرغ أكياس البريد الموكَل إليه مَهمَّة نقلها إلى مركز التوزيع في عرض الشارع. وارتكبَ موظَّفُ البريد هذا الأمر إثر نوبةِ حزنٍ ألمَّت به، وضاقَ بها صدره، وشعرَ معها بتفاهةِ ما يقوم به من عملٍ يتلخَّص في نقْلِ أكياس البريد التي تأتي من نقطةٍ رئيسة إلى مقرٍّ للتوزيع؛ فكان يَستلم كيساً وينقله إلى مقرّ التوزيع، ليأتي بعدها كيسٌ آخر..وهكذا دواليك.
المُذهل في هذه الحادثة، أنّ الرجل، بحسب شهادة زملائه، كان عامِلاً مثاليّاً مُلتزماً بعمله، لم يَغِب عنه أو يتأخَّر طوال سنوات خدمته. لكنْ على ما يبدو في لحظةٍ ما قد شَعَرَ بأنّه منذ أكثر من عقدَيْن لا يقوم بنظامِ عملٍ سوى العمل نفسه من دون أيّ تغيير أو تطوير. ومن دون أدنى شكّ، لم يكُن هذا الموظّف المسكين سيُقدِم على خطأ فادحٍ كهذا لو لم يتملّكه شعورٌ باللّاجدوى والتفاهة بتكراره المستمرّ للعمل ذاته.
هذا التلازم بين العمل واللّاجدوى يتسرَّب في ثنايا الفكر الإنساني عبر التاريخ. ولعلّه يتجلّى في صورته الأكثر وضوحاً في مأساة سيزيف، الأسطورة الإغريقيّة الذائعة الصيت (أسطورة سيزيف)، والتي تحكي عن عقابٍ فريدٍ من نوعه أنزلته الآلهة بـ سيزيف إثر سخريّته منها. والنواة الصلبة لهذا العقاب تنهض على فكرة بسيطة تتلخّص بقيام سيزيف بدحرجةِ صخرةٍ إلى قمّة جبل، وما أن تصل إليها حتّى تعود للتدحرج نزولاً من جديد، ويعود سيزيف إلى دحرجتها مرّةً أخرى إلى القمّة، لتهبط الصخرةُ مرّةً أخرى.. وهكذا ظلَّ دأبُ سيزيف إلى ما لا نهاية.
مفهوم الكدح
يرى رائد فلسفة العبث ألبير كامو في كتابه «أسطورة سيزيف» (1942) أنّ الآلهة «ظنّت أنّه ليس هناك عقاب أبشع من العمل التّافه الذي لا أملَ منه». ثمّة تماهٍ إذاً بين العمل والشقاء الإنساني ترسمه لنا هذه الأسطورة، وحالة موظّف البريد البائس. وللحقّ، فإنّه منذ التأسيس التوراتي للعمل بقاعدة «بِعَرَقِ وجهكَ تأكل خبزاً» تناوبَ العمل والشقاء المعنى نفسه؛ فالجذر اللّغوي لمفردة عمل في اللّغة اللّاتينيّة Tripalium، وهي أداة تعذيب كانت تُستخدَم في صَلْبِ المرء عليها في العصور الوسطى. ومنها اشتُقَّت مفردة عمل في اللّغة الفرنسيّة:Travail، والمعنى نفسه تحمله مفردة عمل في لغاتٍ أخرى.
الصورة المثاليّة للشقاء بالعمل المُفرَغ من المعنى، كما تعرضها الأسطورة اليونانيّة لسيزيف، لا تتجلّى في مفهوم الكدح العظيم بنقْلِ صخرةٍ ضخمة، أو الإحباط الأبدي برؤيتها تهوي للأسفل، بقدر ما تظهر في صورة سيرورة التكرار النهائي والخالي من المقصد. فالأمر عَيْنه يحدث المرّة تلو الأخرى، ولا تتمخّض عنه أيّة نتيجة.
وبذلك فإنّ الحياة الخالية من المعنى لا تعدو كونها حياة تتضمَّن أداء مهامٍّ بسيطة وسهلة إلى ما لا نهاية من دون أيّة نتيجة، ما خلا تكرار الأمر عينه.
إنّ ذلك بكلّ تأكيد هو وصفٌ مصيب للحياة غير الإنسانيّة. فحياة المخلوقات كافّة نراها من حولنا لا تتضمَّن سوى التكرار اللّانهائي، والسلوك نفسه يوماً بعد الآخر، وكلّه من دون أيّة مقاصد ذات تأثيرٍ في العالَم، والمقصد الوحيد هو الحفاظ على النَّوع، والتكاثُر، وولادة أجيال جديدة تُعيد تكرار هذه الحلقة المُفرغة من المعنى.
إنّ طائر السنونو الذي أراه اليوم يفعل الشيء نفسه الذي كان يفعله طائر السنونو الذي كنتُ أشاهده في طفولتي، والأمر عَيْنه كان يراه أسلافنا.
إنّ هذه الأجناس لا تاريخ لها، ومن ثمَّ لا ذاكرة لها أو قدرة على التخيُّل. كلّ جيل منها يَستنسخ مَن سبقه إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً. وهذه الحياة يتلاشى منها المعنى، ويهبط إليها الشقاء لأنّها تفتقر إلى المخيالِ والتخييل. فهل هذه الصورة نجدها أيضاً صورةً للوجود الإنساني؟
بلى، إلى حدٍّ بعيد. وقد أَفلح أدب الديستوبيا «المدينة الفاسدة» في نماذج حاذقة لـ أورويل وهكسلي وبورخيس في أن يدفع هذه الفكرة إلى تخومها القصوى عبر تصوير حيواتٍ مُختلفة في مساقاتٍ متباينة منزوعة الخيال والإرادة تهبط بالإنسان إلى منزلة حياة العجماوات.
صائد السمك
إنّ حياة السواد الأعظم من البشر، حين يُستأصَل منها المخيال والقدرة على توليد طاقة تخييليّة، تغدو مثل طريقة عمل الساعة الميكانيكيّة، تتكرَّر إلى ما لا نهاية. يصحو البشر في حياة كهذه ليُزاولوا العملَ نفسه الذي كانوا يزاولونه بالأمس، ويعيدون فعله في الغد. وفي النهاية يطويهم الثرى من دون أن يخلفوا وراءهم شيئاً ذا قيمة، باستثناء جيلٍ جديد يُعيد تكرار ما كانوا يقومون به.
للمرء أن يتساءل: ماذا لو أنّ ساعي البريد نفسه الذي كان يُبعثر محتويات كيس الرسائل في الطريق العامّة نَظَرَ بعَيْن الخيال إلى الكيفيّة التي تُمكّنه من أن يُغيِّر العمل الذي من خلاله يُغيِّر صورة حياته، وربّما حياة آخرين؟
ولنقدِّم مثالاً على الكيفيّة التي تحيل بها طاقة التخييل العمل إلى صيغةٍ جديدة للحياة:
يتجلّى هذا الأمر على نحوٍ باهر في رواية «الصبر الحارق» للروائي التشيلي أنتونيو سكارميتا الصادرة في العام 1985 في بيونس آيرس. وتحوَّل جزءٌ من الرواية نفسها إلى عملَيْن سينمائيَّيْن، وصدرت منها طبعة بالإنكليزيّة تحمل عنواناً مباشراً «ساعي البريد».
في الرواية الأصليّة يتّخذ فتىً يُدعى ماريو خيمنيز وظيفة ساعي بريد في إحدى قرى تشيلي. وهو ابن صائد للسمك هربَ من حتميّة تحوُّلِه إلى نسخةٍ عن أبيه فقرَّر أن يعمل في وظيفة ساعي بريد، إذ إنّ صائد السمك يصحو كلّ يوم عند الفجر، ويُبحر في قاربه عائداً قُبيل الغروب، ومعه ما يجود به البحر من غنيمة.
لكنّ الوظيفة التي طمحَ إليها الفتى كانت تتلوَّن بشتّى صنوف المشقّات، إذ لم يستقرّ عليها الكثير ممَّن سبقوه إليها. أولى هذه المشقّات: أنّ ساعي البريد يتحتّم عليه حمْلُ كميّة هائلة من البريد على ظهره يوميّاً ولمسافةٍ طويلة، وثانيها أنّه يقصد كلّ يوم وجهةً واحدة، ويُقابل شخصاً واحداً. وبذلك فهو لن يرى وجوهاً جديدة، أو يزور وجهاتٍ متنوّعة. وفي حقيقة الأمر فإنّ هاتَيْن الحقيقتَيْن تشكّلان عنصر التكرار المُملّ عينه الذي اشتكى منه سيزيف.
لكنّ الفتى يتغلّب على هذه الصعوبات في العمل عن طريق توظيف الفضول بوصفه القوّة المحرّكة للخيال. فيشرع أوّلاً باستغلال راتبه الأوّل في الخروج من القرية نحو العالَم الأكبر: المدينة؛ بكلّ ما فيها من مقوّماتٍ حياتيّة واحتمالاتٍ تَستبشر بمستقبلٍ أفضل.
هناك، في المدينة.. يتسلّل إلى العالَم الأكبر برحابته واتّساعه من خلال مشاهدته الأفلام العالميّة في السينما، ويرى عبر الشاشة بأمّ عَينه عالَماً واسعاً، جميلاً وثريّاً كما تُصوِّره هوليوود أو السينما الأوروبيّة.
وحين يكتشف الفتى أنّ مقصده اليومي هو منزل شاعر تشيلي العظيم بابلو نيرودا، ينبجس خياله عن فكرة اقتناء ديوان شعر لـ نيرودا، والطلب من الشاعر التوقيع عليه. ورأى بأنّ تلك فرصة سانحة لا تُتاح لكثيرين، وستَجعله حتماً من القلائل الذين يملكون ديواناً مَمهوراً بتوقيع الشاعر الحائز على جائزة نوبل بخطّ يده. ويكفيه التجوال في المدينة حاملاً هذا الديوان الذي أهداه إيّاه بابلو نيرودا نفسه.
هذا الخيال الجامح للفتى جَعَلَهُ يمدّ جسراً للصداقة مع الشاعر الكبير، وأَتاح له أن يتعلّم على يدَيْه أولى الدروس في تذوُّق الشعر. وتلك الدروس التي خصَّه بها نيرودا ستكون لاحقاً بمثابة مَهر الارتباط بفتاةِ أحلامه الجميلة.
الخيال عَيْنه الذي جَمَعَ الفتى ونيرودا سوف يَنسج دَوراً مُهمّاً للأوّل في حياة نيرودا؛ إذ بعد الإطاحة بحُكم سلفادور أليندي في أيلول/ سبتمبر 1973، وُضع نيرودا رهنَ الاعتقال المنزلي، وتحت الحراسة؛ ما جَعَلَ وصول الرسائل إليه ضرباً من المستحيل. لكنّ الفتى ماريو يتلقّى رسائل نيرودا، ويحفظها، ومن ثمّ ينقل مضمونها إلى نيرودا شفاهاً عند زيارته له، وذلك ما يَسَّرَ فرار نيرودا إلى أوروبا لاحقاً.
هكذا، فهذه الوظيفة المُملَّة التي هَجرها كثيرون نَفَخَ فيها الفتى القرويُّ ماريو خيمينيز روح الخيال؛ فهيَّأت له قنطرة صداقة مع واحدٍ من أعظم شعراء الإنسانيّة.
قد يكون العمل الذي نقوم به بحاجة إلى أن نَجعل منه حكاية شخصيّة تروي جزءاً أصيلاً وجوهريّاً من حياتنا؛ فنكون، والحال كذلك، قادرين، ولو بعض الشيء، على الاقتراب من جوهر وجودنا، وهو: المعنى. *كاتب من الكويت
* ينشر بالتزامن مع دورية افق الإلكترونية.