أنس الرشيد

ربما يصح الآن مع وسائل التواصل، أن يُقال مع مَن قال قاصدًا بنية المسرح: «إذا أردتَ أن يَتحلَّق المارّون حول شَخصٍ ما، فليس عليك إلا أن تَجعله يَقف بجانب عمود خشبي ليؤدي أدورًا ملفتةً للانتباه»، فهذا ما يجري الآن في وسائل التواصل، إذ كُلٌّ قد أمسك بعمودٍ خشبي افتراضي وأدى أدوارًا مسرحية خاصة به. وربما هذا التوافق بين المسرح قديمًا وهذه العودة المتشظّية هو نوع من (العود الأبدي) النيتشوي المخيف، ليحرضنا على تجاوز مخاوفنا الأخلاقية.

وربما أنَّ هذا التمسرح في وسائل التواصل، هو ما جعل مفهوم المسرح الآن يُعبّر أيَّما تعبير عن حاجات الناس للتمسرح خارج الخشبة، ويجعل من المسرح التقليدي ميتًا مهما حاول أصحابه تقديم مسرحية هنا وهناك، فجمهورها -إن وجد- أغلبه من زملاء المخرج أو الكاتب أو الممثلين وأهاليهم، لكن من اللافت للانتباه (بعيدًا عن أي أحكام معيارية نقدية) أنَّ ناصر القصبي لما عَمل مسرحيةً، امتلأ المسرح كله، واهتم بها آخرون لم يحضروا، وهذا ما يجعل التمسرح لذاته -دون مفهوم شعبي- يعود أيضًا من خلال ما يفعله المسرح الجماهيري من جَني العوائد الملموسة، في مقابل خيبة المسرح النخبوي الذي ما زال يَشحذ الناسَ قيمةَ تذكرةٍ ليركب قطارَ الزمن، وكأنَّه لم يَعرف أنّ القطارَ من شُروطِه التخلّي عن الأفكار التي يتجاوزها المفهوم الشعبي وواقعيته؛ إذ نَسمَع بصورةٍ مملة شَكوى عن الحدِّ الفاصل بين المسرح النخبوي الذي يُحَاول أن يُخَاطِب فئةً محددة، والمسرح الجماهيري الذي يُخاطِب العامة، ومفاد هذه الشكوى أنَّ المسرحَ النخبوي أصبح لا يُخاطِب إلا نفسَه وجماعته بعد أن انهارَ مفهومَ النخبة التي تُغيّر التاريخ، والمسرح الجماهيري أصبح يُخاطِب الذين يُحبون (الإفيهات)!!، ومن ثم لا ذاك استطاع أن يتخلّص من عُقَدِه القديمة المكررة، ولا المسرح الجماهيري استطاعَ أن يَعود ليكونَ شَعبيًا، أي مخاطبة إرادة الشعب من يومياته الحقيقية بوصفها موضوعًا مسرحيًا وليس فكرة (إفّيهية)!.

والسؤال: ألا يُمكِن أن يتّحد هذان الاتجاهان ليكوّنا نواةً مسرحية تُكمِل تاريخ التمسرح داخل الخشبة دون أن تكون خارج التاريخ؟ ولنفترض وجودَ متفرجَيْن على مسرحيةٍ واحدة، أحدهما يَنتمي للنخبوي، والآخر للجماهيري فكيفَ يَضمن العرضُ المسرحيُّ أن يُشركهما في متعةِ الحدث المسرحي من أوله إلى آخِره، دون أن يُخِلّ بقواعدِ تفكير كُلٍّ منهما بإرادة المعاني التي تَحكم خطابه؟

ربما لو فُكِّر بإجابةِ هذا السؤال كمشروعٍ مسرحي شعبي، سينتج عن هذا حالةٌ مسرحيةٌ تفهم معنى الشعب بطريقة حديثة، لكنها متعلقة بالمعنى المسرحي القديم. وربما سيتربَّى ذوقٌ شعبيٌ سيتخلّص من الهمِ القديم الذي يُصِّر على نوعٍ مسرحي ميِّت، وسيتخلص من الاستسهالِ المسرحي الذي ولِدَ من غياب التمسرح الشعبي الحقيقي.

وربما شرط هذا المشروع أن يكون جماعيًا، أي أن يكون النصُّ في بداياتِه بذرةً أولى، للانطلاقِ في خلية عملٍ تَجمع صناعَ العملِ المتنوعين ضرورةً؛ ما بين كاتبٍ يضع البذرة، ومخرج متحرر من قيود النظرةِ الذاتيةِ والأبويةِ، وممثلين يَتشرّبون بحريةٍ تامة أصلَ الشخصية وعلاقاتها وأفقها ومسارها، ثم يُلبِّسونها من إبداعهم ما يجعلها حقيقة من لحم ودم شعبي، لا مجرد انعكاس لما في الورق المثالي، بالإضافةِ لوجودِ عينٍ رابعة لها أفقها المستقل في التلقي الشعبي -وقد تكون مؤسسة- لتَضمن أنَّ الأركانَ الثلاثةَ السابقة لم يعتَدِ أحدها على الآخر، كل هذا لضمانِ تَوزع وجهاتِ النظر والمتخيل المرئي لاحقًا، ولكي يخرج العرض كما ينبغي له أن يخرج متجليًا باسم المسرح الشعبي من الجميع، وإلى الجميع.

هذه المشروع لن يتقدم خُطوَةً نحو إنضاجِ مفهومِ المسرح الشعبي، مالم تتخلَ الذاتُ عن ذاتيتها لصالح الذاتية الشعبية، ويفهم الكاتبُ والمخرج أنَّ المسرح بوصفه أدبًا يعبر عن أزماته النفسية والاجتماعية قد مات. وسيظل المسرح فقيرًا في الوعي الحديث للشعب مالم يُفكًّر بإعادةِ هذا الشعب لأنَّ يتمسرح بنفسِه في النصوصِ، والشَّعب هو من يُعَوَّل عليه في مَعنى التمسرح داخل الخشبة، وسيظل المسرح -دون التمسرح الشَّعبي- إنجازات فردية، كأنَّها نصوصٌ شِعرية أو نثرية تُعبِّر عن إبداعِ مبدعها ليس إلا.

وربما تَنطَلق نواةُ هذا المَشروع من وزارةِ الثقافة، وذلك بأن تَعمل على أرشفةِ الأعمالِ المسرحيةِ التي تُقارب شُروطَ المسرحِ الشَعبي، بعد أن تُعطِي له تَعريفًا يَتناسب مع التَّغيرات الحديثة لكنَّه مرتبطٌ بالمفهومِ المسرحي القديم، فمفهوم الأرشفة -على مستوى الوطن- ليس مقصودًا به توثيق أعمال فردية لم يَحضرها إلا أصدقاء العاملين عليها، بل هو صنعة تاريخية مؤثرة في كينونة المكان وشعبه. ومن ثم فالعمل المسرحي الذي يُؤرشَف هو ما بَدأ بذرة ونضجَ عملًا مسرحيًا شعبيًا كبيرًا.

التفاتة:

يُمكِن للمقالةِ أن تَطرح تَصورًا أوليًا بسيطًا لنموِ بَذرةِ النصوصِ من زاويةٍ جمعية، تقوم على أنَّ هيكل النَّصّ من الضروري أن يُناسِب التمسرح الشعبي في جوهره، بمعنى إذا نُزعِت المضامين التي يُراد منها أن تُخاطِب عقلًا خاصًا، سيجد المتفرج العام أنه أمام حكاية من حياة الشعب لها بداية ووسط ونهاية، ويرى فيه نفسَه من حيث إنه كائنٌ تُولَد فيه ملهاةٌ ومأساةٌ في آنٍ واحد، من قلب المكانِ الذي وَلَّد المسرحية. وهذا يجعل النصَّ المسرحيَّ يَسير في خَطَّين متوازيين، كُلُّ خَطِّ في عقلِ متفرجٍ ثم ينعطفان باتجاهِ بعضهما حتى يلتقيان عند النهاية.