عبدالله الجديع

مرَّت على الناس أيام رسمت في وعيهم صورة للمثقفين، ولم يكن التصنّع بعيدًا عنها، كأنَّ من شروطها في ذلك الحين اللحية الكثة في القرن التاسع عشر، والغليون، على هيئة (سيجموند فرويد)، بساعة جيب، كأنه بارون أيام النبلاء. ثم تقلبت الصورة إلى ارتباط القهوة بمزاج ذلك المثقف، ففي باريس انتشرت مقاهي المثقفين وكانت علامة على أجواء الحرية الفرنسية الجديدة في أوروبا، ثم انتشرت في مصر، كأثر للبعثات إلى فرنسا، وصار أبناء الطبقات العليا يعلنون عن صالوناتهم الثقافية، حيث يجتمع النبلاء فيها، يحتسون القهوة، وعجة الدخان تملأ السقف، في لقاءات تعقد أكثر من إنجازات هؤلاء المنتسبين إلى حقل الثقافة.

فما أن انقلبت الصورة حتى وصلنا إلى عصر رقمي، الذي نقل بطريقة جنونية تسارع نقل المادة المكتوبة والمصوّرة والمسموعة، فخرجت أنماط جديدة من ذلك المثقف المرائي! الذي يلاحق كل موضوع ذي جلبة، فيسرع إلى إعداد حلقة عنه، في الاقتصاد، والسياسة، بل لعله يخوض في أدق النقاشات الفقهية، ويتصور أنَّ له يدًا في كل شيء، حتى إنَّ عددًا ممن يفضّلون نداءهم بمولانا كما كانت ألقاب عصر المماليك للفقهاء والصوفية، انجرّوا إلى اللعبة نفسها، وصاروا يجارون مواضيع العالَم، على اختلافها، من الثقب الأسود، وشرح الكوارك، وميكانيكا الكم، حتى آخر حدث سياسي، وهؤلاء كان لهم مع الثقافة قصة أخرى.

إذ اجتاحوا مواقع التواصل ولا يتوقفون عند موضوع، بل خانات اهتماماتهم لا تكاد تنتهي من فرط الإجابات، يقدّمون آراءهم كالوجبات السريعة، ثم تجد (مولانا) يشرح السمفونية التاسعة، ثم يجيب عن دوستويفسكي ويقارن بورخيس بسارتر. فهل صار من شروط هذا المثقف الإبهار الذي ينافس قنوات الأقمار الصناعية، بأنه ذلك الذي يتكلم في كل شيء، ويسارع إلى إرضاء السائل في مختلف المواضيع؟

قد يعطي هذا التوسع في المواضيع المطروقة إشارة كاذبة إلى أنه نتاج معرفة كبرى، تتفلت من صاحبها كرهًا عنه، فلا يستطيع إلا أن يسكب ما حمله على الجياع في المعرفة، لكنّه ليس من هذا، فعند التدقيق فيما يكتبه هؤلاء، تكون المحصلة: القصور الفادح، والأخطاء المركَّبة، والجهل المختبئ خلف الادعاء العريض، فلم يكن الباعث لهؤلاء نشر المعرفة، بل محاكاة صورة بارون الثقافة الكلاسيكي، الذي يخطف قلوب الحسناوات في صالون الثقافة، تحت غيمة الدخان تلك! لكنّه اليوم، يخطف إعجاب المريدين والمريدات، يبهرهم في تنقله في شتى المواضيع كخفة اليد، ليصلوا إلى تفعيل جرس قناته، ويمطرونه بالإعجاب، دون أن يقدّم لهم أي حل حقيقي، ثم جاء الذكاء الصناعي!

فكشف عوار هؤلاء، إذ إنهم ينشرون مواضيع إنشاء، لا سوق لها في المعرفة، ولا في الأدب، فلا تنافس الذكاء الصناعي، وقديمًا كان هناك من يقارن بين الإنسان والكمبيوتر، فيقول: من صنَع الكمبيوتر هو الأذكى، فأنى يكون كذلك من يستطيع الذكاء الصناعي، أن يفوقه في مختلف المجالات الثقافية؟ إنَّ هؤلاء المثقفين المزعومين، لم يفهموا من الثقافة إلا قالبَ حامليها لا قلبها، ولذا يمكن أن يطلق عليهم لقب مثقفي الإعجاب، فهم يستقتلون ليشهدوا عداد المشاهدات يرتفع، سيفعلون أي شيء في سبيل هذا، ويبقون على تقلب آرائهم كلاعب في السيرك بغية إعجاب الجمهور!

إنَّ الثقافة الحقيقية ليست في ملاحقة الإعجاب، ولا تلك التي تقفز سريعًا بحسب (ترند) اللحظة، بل هي نفس طويل، ينشئ فيها صاحبها شبكة كبرى من المعارف، من مظانها الأصيلة، مرتبطة بفضوله، وشغفه الذي لا يكاد ينتهي، فلا يعني له شيئًا ملاحقة المتابعين أينما حلّوا، فهي تحتاج إلى وقت حتى تختمر، فهي أشبه ما تكون بآثار الحضارة، من بناء وعلوم، وفنون، وآداب، ولو قمنا بتجربة ذهنية، ووضعنا كل ما تفخر به البشرية اليوم من كنوزها الخالدة، وآثارها العظيمة، إلى جانب ما يتفاعل معه كثيرون في موضوع سريع صار (ترند) اليوم، وقدرنا اختفاء الاثنين، هل سيفتقد أحدٌ ترند اليوم، أمام الثقافة الحقيقية؟

فإنّنا أحوج ما نكون إلى زيادة معرفتنا، وتطوير مجتمعاتنا، لا جعل الثقافة موضع تباهٍ بأنانية، وتصبح الثقافة مثل عمليات التجميل في تصنّعها، مع مساحيق تدفن صاحبها تحتها، وتقتل مسام بشرته، الثقافة وجدت لتحيا الشعوب، وتنقلهم إلى منازل أخرى من المعرفة، والأدب الرفيع، لا أن تشتتها، وتعلمها الرياء والتصنّع الزائف.