عندما سئل الأمير محمد بن سلمان عن التطبيع مع إسرائيل، في المقابلة مع «فوكس نيوز»، أجاب: «كلّ يوم نقترب أكثر»، لأن «المفاوضات تُجرى بشكل جيد». وكانت لديه إشارتان، الأولى إلى أن القضية الفلسطينية «مهمة جداً بالنسبة إلينا»، والثانية إلى أن العملية يمكن «أن تجعل من إسرائيل لاعباً في الشرق الأوسط»، أي تدمجها بالمنطقة. ولا يتحدث ولي العهد ولا المسؤولون السعوديون «كل يوم» عن هذا الملف، فهناك فعاليات ومؤتمرات كثيرة ومتعدّدة الاختصاصات تُنظّم يومياً في الرياض وجدّة وسواهما، وتشهد على ديناميكية التحولات الداخلية وتفاعلاتها مع الخارج. لذلك عبّرت مقالات صحافية عدة أخيراً عن أن «المملكة غير متعجّلة لإقامة علاقات مع إسرائيل برعاية أمريكية»، مع الحرص في الوقت نفسه على القول إن القضية الفلسطينية «في صلب أولويات السياسة السعودية».
وهذا ما شدّد عليه السفير نايف السديري في اجتماعه مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس لتقديم أوراق اعتماده، كما في لقاءاته مع المسؤولين في رام الله. وأعاد السفير الأول المعتمد لدى فلسطين التذكير بأن «المبادرة العربية للسلام» لا تزال على الأجندة السعودية وستكون «ركناً أساسياً» في أي اتفاق، بما فيها من تأكيد على دولة فلسطينية في إطار «حل الدولتين». وسارع الإعلام الغربي إلى القول إن الرياض تسعى إلى «طمأنة الفلسطينيين»، وربط بين زيارة السفير وحضور وزير السياحة الإسرائيلي حاييم كاتس في مؤتمر لمنظمة السياحة التابعة للأمم المتحدة استضافته الرياض. وقبل ذلك كان مسؤولان إسرائيليان شاركا في مؤتمر التراث العالمي الذي نظّمته «اليونيسكو» في الرياض أيضاً. وهناك مشاركات أخرى ستأتي طالما أن السعودية تواصل انفتاحها وتحظى بقبول عالمي، في حين أن إسرائيل لا تستطيع استضافة أي نشاط لأي مؤسسة دولية لسبب واضح: إنها دولة احتلال.
عندما عُيّن السفير السديري، منتصف آب (أغسطس) الماضي، صرّح بأن «تعيينه يأتي لإعطاء العلاقات مع فلسطين طابعاً رسمياً في كل المجالات». لكن إيلي كوهين، وزير خارجية إسرائيل، سارع إلى إعلان أنها «لن تسمح بفتح أي ممثلية ديبلوماسية لدى الفلسطينيين، بشكل فعلي من أي نوع أو آخر، في القدس». وكان كوهين نفسه أراد الانسلال مع زميله وزير التربية يوآف كيش إلى مؤتمر «اليونيسكو» غير القابل للتسييس، فلم يحصلا على تأشيرة دخول. وفي أي حال أكّد موقف كوهين أن عقلية إسرائيل لا تزال بعيدة جداً عن أي مفهوم «تطبيعي» حقيقي، إذ يقول رئيس وزرائها يومياً إنه يسعى إلى علاقات مع كل الدول العربية والإسلامية بدافع «السلام» ويتجاهل أي سلام مع الفلسطينيين، أي أنه يريد التطبيع + الاحتلال، بما ينطوي عليه من اغتيالات يومية وسرقة دائمة للأراضي واستباحة للمقدسات وعنصرية مشرعنة واعتداءات يشنّها المستوطنون بمواكبة من الجيش أو الشرطة.
مع استمرار المفاوضات، وعدم التعجّل السعودي، يجتهد مسؤولون أمريكيون وإسرائيليون «كل يوم» في البحث عن الصيغ المناسبة لتمرير ما يواصلون تسميتها «الصفقة الكبرى»، ولإظهار أنها تتقدّم وتقترب على رغم الشياطين الكثيرة الكامنة في التفاصيل. وأصبح واضحاً أن هناك معضلتين: 1) مدى الالتزامات الأمريكية في الاتفاق الدفاعي مع السعودية فضلاً عن نوع الأسلحة والتكنولوجيا النووية، إذ تحاول الإدارة استباق أي موقف سلبي من جانب الكونغرس. و2) المسألة الفلسطينية في اتفاق التطبيع مع إسرائيل، التي دخلت في نقاشات وخلافات داخلية صعبة حول «التنازلات» المطلوبة وكأنها، للمرّة الأولى، إزاء «كأس سمٍّ» لا بدّ من تجرّعها لا لإقامة سلام مع الفلسطينيين، وإنما فقط لنيل التطبيع مع السعودية.
حدّدت الرياض أهدافها وشروطها في كلا الملفين: فمن جهة حان الوقت لحسم الجدل والشكوك والنفاق التي اكتنفت العلاقة السعودية - الأمريكية، وهناك عقلية جديدة وشابة تقود المملكة الآن وتعمل على تفعيل كلّ طاقاتها ولم تعد تستسيغ الغموض في ما يتعلّق بـ «التزامات الحماية»، أهي حقيقة واقعية وملموسة عند الحاجة إليها أم خرافة ووهم كلاميان أم مجرد وسيلة ظرفية للابتزاز... ومن جهة أخرى حان الوقت أيضاً لتغيّر إسرائيل سلوكها وتقرّر ما الذي تريده من وجودها في الشرق الأوسط ومن اتفاقاتها مع العرب طالما أن كلّ التجارب (مع مصر والأردن واتفاقات أوسلو، والاتفاقات الأربعة الأخرى) لم تؤسس أي سلام أو استقراراً في المنطقة ولم تظهرها كـ «دولة طبيعية ومسؤولة»، إذ لا يمكنها الحصول على الشيء ونقيضه، على السلام ومواصلة تسميم المنطقة بالعربدة العسكرية، وعلى قبول «شرعيتها» مع إدامة الاحتلال للشعب والأرض الفلسطينيين، وعلى مصالح اقتصادية من دون المساهمة في الاستقرار.
تدرك الولايات المتحدة وإسرائيل جيداً أن التطبيع السعودي سيشكّل نهاية «رسمية» للصراع العربي- الإسرائيلي، وبالتالي فإنه يتطلّب «صفقة» مختلفة وغير عادية. ليست الرياض مَن طلب ربط الاتفاق الدفاعي باتفاق التطبيع وإنما الطرفان الآخران، وبالتالي فإنهما ملزمان بالوضوح والجدّية. وليس هذان الطرفان من صنعا المكانة السعودية في العالمين العربي والاسلامي وإنما هي التي صنعتها وحافظت عليها وليست لديها أسباب قاهرة للانقلاب عليها في أي ظرف. لكن من الواضح أن هذه المكانة الرفيعة هي التي تشكّل مصالح ودوافع رئيسية لواشنطن وإسرائيل كي تسعيا إلى اجتذاب السعودية، فهناك حالياً المنافسة/ الصراع بين أمريكا والصين، وهناك الصراع مع روسيا، وهناك دائماً ذريعة «أمن إسرائيطل» ومستقبلها، ولذلك فإن الأمريكيين والإسرائيليين مضطرون هذه المرّة للأخذ في الاعتبار أن السعودية مهتمة أيضاً بأمنها واستقرارها ومصالحها، وأن لديها مسؤولية تجاه العرب والمسلمين. أما الأهمّ فهو أن لديها خياراتها الأخرى دولياً، وإذا كانت لا تزال تولي أولوية لاتفاق مع الولايات المتحدة فهذا لا يعني أنها مستعدة للقبول بالتزامات جوفاء ومكلفة.
هناك تغيير وواقع جديد في المنطقة يتمحوران حول السعودية. الصين وروسيا مدركتان وتتعاملان مع هذا الوضع كما هو، بل تشجعان عليه، فعلاقات التعاون تفترض مصالح متبادلة. لكن ما يتسرّب عن النقاشات الأمريكية والإسرائيلية ينمّ عن سعي إلى الخداع لا الوضوح. إذا كان الكونغرس يريد التطبيع السعودي- الإسرائيلي من دون شروط دفاعية فلماذا تدّعي الإدارة جاهزيتها لـ «صفقة»، ولماذا النزول المتدرّج بمستوى الاتفاق الدفاعي لتهريبه من الكونغرس وحصره بالإدارة الحالية، ولماذا يعوّل جو بايدن على «إجراءات» يتخذها بنيامين نتانياهو «لإبقاء حل الدولتين على قيد الحياة» مع علمه بأن الأخير عمل ويعمل على قتل هذا الحلّ؟ واستطراداً، إذا كان الإسرائيليون أنفسهم يعترفون باستحالة تقديم «تنازلات» ذات مغزى للفلسطينيين، وأن بنيامين نتانياهو وحكومته المتطرفة لا يستطيعان تلبية المتطلبات الفلسطينية للتطبيع فما الذي تتوقعه واشنطن وإسرائيل من السعودية طالما أن الشأن الفلسطيني مصلحة لها؟
* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»
وهذا ما شدّد عليه السفير نايف السديري في اجتماعه مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس لتقديم أوراق اعتماده، كما في لقاءاته مع المسؤولين في رام الله. وأعاد السفير الأول المعتمد لدى فلسطين التذكير بأن «المبادرة العربية للسلام» لا تزال على الأجندة السعودية وستكون «ركناً أساسياً» في أي اتفاق، بما فيها من تأكيد على دولة فلسطينية في إطار «حل الدولتين». وسارع الإعلام الغربي إلى القول إن الرياض تسعى إلى «طمأنة الفلسطينيين»، وربط بين زيارة السفير وحضور وزير السياحة الإسرائيلي حاييم كاتس في مؤتمر لمنظمة السياحة التابعة للأمم المتحدة استضافته الرياض. وقبل ذلك كان مسؤولان إسرائيليان شاركا في مؤتمر التراث العالمي الذي نظّمته «اليونيسكو» في الرياض أيضاً. وهناك مشاركات أخرى ستأتي طالما أن السعودية تواصل انفتاحها وتحظى بقبول عالمي، في حين أن إسرائيل لا تستطيع استضافة أي نشاط لأي مؤسسة دولية لسبب واضح: إنها دولة احتلال.
عندما عُيّن السفير السديري، منتصف آب (أغسطس) الماضي، صرّح بأن «تعيينه يأتي لإعطاء العلاقات مع فلسطين طابعاً رسمياً في كل المجالات». لكن إيلي كوهين، وزير خارجية إسرائيل، سارع إلى إعلان أنها «لن تسمح بفتح أي ممثلية ديبلوماسية لدى الفلسطينيين، بشكل فعلي من أي نوع أو آخر، في القدس». وكان كوهين نفسه أراد الانسلال مع زميله وزير التربية يوآف كيش إلى مؤتمر «اليونيسكو» غير القابل للتسييس، فلم يحصلا على تأشيرة دخول. وفي أي حال أكّد موقف كوهين أن عقلية إسرائيل لا تزال بعيدة جداً عن أي مفهوم «تطبيعي» حقيقي، إذ يقول رئيس وزرائها يومياً إنه يسعى إلى علاقات مع كل الدول العربية والإسلامية بدافع «السلام» ويتجاهل أي سلام مع الفلسطينيين، أي أنه يريد التطبيع + الاحتلال، بما ينطوي عليه من اغتيالات يومية وسرقة دائمة للأراضي واستباحة للمقدسات وعنصرية مشرعنة واعتداءات يشنّها المستوطنون بمواكبة من الجيش أو الشرطة.
مع استمرار المفاوضات، وعدم التعجّل السعودي، يجتهد مسؤولون أمريكيون وإسرائيليون «كل يوم» في البحث عن الصيغ المناسبة لتمرير ما يواصلون تسميتها «الصفقة الكبرى»، ولإظهار أنها تتقدّم وتقترب على رغم الشياطين الكثيرة الكامنة في التفاصيل. وأصبح واضحاً أن هناك معضلتين: 1) مدى الالتزامات الأمريكية في الاتفاق الدفاعي مع السعودية فضلاً عن نوع الأسلحة والتكنولوجيا النووية، إذ تحاول الإدارة استباق أي موقف سلبي من جانب الكونغرس. و2) المسألة الفلسطينية في اتفاق التطبيع مع إسرائيل، التي دخلت في نقاشات وخلافات داخلية صعبة حول «التنازلات» المطلوبة وكأنها، للمرّة الأولى، إزاء «كأس سمٍّ» لا بدّ من تجرّعها لا لإقامة سلام مع الفلسطينيين، وإنما فقط لنيل التطبيع مع السعودية.
حدّدت الرياض أهدافها وشروطها في كلا الملفين: فمن جهة حان الوقت لحسم الجدل والشكوك والنفاق التي اكتنفت العلاقة السعودية - الأمريكية، وهناك عقلية جديدة وشابة تقود المملكة الآن وتعمل على تفعيل كلّ طاقاتها ولم تعد تستسيغ الغموض في ما يتعلّق بـ «التزامات الحماية»، أهي حقيقة واقعية وملموسة عند الحاجة إليها أم خرافة ووهم كلاميان أم مجرد وسيلة ظرفية للابتزاز... ومن جهة أخرى حان الوقت أيضاً لتغيّر إسرائيل سلوكها وتقرّر ما الذي تريده من وجودها في الشرق الأوسط ومن اتفاقاتها مع العرب طالما أن كلّ التجارب (مع مصر والأردن واتفاقات أوسلو، والاتفاقات الأربعة الأخرى) لم تؤسس أي سلام أو استقراراً في المنطقة ولم تظهرها كـ «دولة طبيعية ومسؤولة»، إذ لا يمكنها الحصول على الشيء ونقيضه، على السلام ومواصلة تسميم المنطقة بالعربدة العسكرية، وعلى قبول «شرعيتها» مع إدامة الاحتلال للشعب والأرض الفلسطينيين، وعلى مصالح اقتصادية من دون المساهمة في الاستقرار.
تدرك الولايات المتحدة وإسرائيل جيداً أن التطبيع السعودي سيشكّل نهاية «رسمية» للصراع العربي- الإسرائيلي، وبالتالي فإنه يتطلّب «صفقة» مختلفة وغير عادية. ليست الرياض مَن طلب ربط الاتفاق الدفاعي باتفاق التطبيع وإنما الطرفان الآخران، وبالتالي فإنهما ملزمان بالوضوح والجدّية. وليس هذان الطرفان من صنعا المكانة السعودية في العالمين العربي والاسلامي وإنما هي التي صنعتها وحافظت عليها وليست لديها أسباب قاهرة للانقلاب عليها في أي ظرف. لكن من الواضح أن هذه المكانة الرفيعة هي التي تشكّل مصالح ودوافع رئيسية لواشنطن وإسرائيل كي تسعيا إلى اجتذاب السعودية، فهناك حالياً المنافسة/ الصراع بين أمريكا والصين، وهناك الصراع مع روسيا، وهناك دائماً ذريعة «أمن إسرائيطل» ومستقبلها، ولذلك فإن الأمريكيين والإسرائيليين مضطرون هذه المرّة للأخذ في الاعتبار أن السعودية مهتمة أيضاً بأمنها واستقرارها ومصالحها، وأن لديها مسؤولية تجاه العرب والمسلمين. أما الأهمّ فهو أن لديها خياراتها الأخرى دولياً، وإذا كانت لا تزال تولي أولوية لاتفاق مع الولايات المتحدة فهذا لا يعني أنها مستعدة للقبول بالتزامات جوفاء ومكلفة.
هناك تغيير وواقع جديد في المنطقة يتمحوران حول السعودية. الصين وروسيا مدركتان وتتعاملان مع هذا الوضع كما هو، بل تشجعان عليه، فعلاقات التعاون تفترض مصالح متبادلة. لكن ما يتسرّب عن النقاشات الأمريكية والإسرائيلية ينمّ عن سعي إلى الخداع لا الوضوح. إذا كان الكونغرس يريد التطبيع السعودي- الإسرائيلي من دون شروط دفاعية فلماذا تدّعي الإدارة جاهزيتها لـ «صفقة»، ولماذا النزول المتدرّج بمستوى الاتفاق الدفاعي لتهريبه من الكونغرس وحصره بالإدارة الحالية، ولماذا يعوّل جو بايدن على «إجراءات» يتخذها بنيامين نتانياهو «لإبقاء حل الدولتين على قيد الحياة» مع علمه بأن الأخير عمل ويعمل على قتل هذا الحلّ؟ واستطراداً، إذا كان الإسرائيليون أنفسهم يعترفون باستحالة تقديم «تنازلات» ذات مغزى للفلسطينيين، وأن بنيامين نتانياهو وحكومته المتطرفة لا يستطيعان تلبية المتطلبات الفلسطينية للتطبيع فما الذي تتوقعه واشنطن وإسرائيل من السعودية طالما أن الشأن الفلسطيني مصلحة لها؟
* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»