نهض ابن رشد ضد الأفلاطونية الجديدة لفلاسفة المشرق وضد الضعف الجدلي للمتكلمين المسلمين الأشاعرة، وضد الدوغمائية التبسيطية والشرعوية للفقهاء. وحاول أن يضع محل كل ذلك المنهجية البرهانية أو (التحليلية أو الأنا الوطيقا). ثم المحاجة الجدلية (أو الطوبيقا)، ثم المجادلة الخطابية أو (الخطابة). ثم المقولات المنطقية أو (الأورغانون آلة المنطق). وهي مجمل الأشياء التي تحدد الموقف الفلسفي والممارسة الفلسفية لأرسطو ومن خلال هذا الجهد المبذول لعقلنة المعرفة لا يبدو أن ابن رشد قد تعرف على مكتسبات المعتزلة، نقول ذلك ونحو نعلم أن المعتزلة كانت تمثل مدرسة مهمة عملت الكثير بين القرنين الثاني والرابع الهجري/ أي الثامن والعاشر الميلادي من أجل زيادة الثقة بالعقل، ولكن تعاليمها ومكتسباتها المعرفية لم يتح لها أن تنتشر في الغرب الإسلامي (أي في الأندلس والمغرب الكبير) بسبب معارضة الفقهاء المالكيين لها. وهذا هو سبب عدم تعرفه عليها وهم الفقهاء أنفسهم الذين أمروا بسجن ابن رشد في أواخر حياته.
في الحقيقة أن الموقع السياسي والاجتماعي للفقهاء يمثل أحد المعطيات الدائمة لتاريخ الفعالية الفكرية بشكل عام. والفكر الديني بشكل خاص في الغرب الإسلامي، إن الضغط الايديولوجي القوي كان قد فرض في كل مكان المذهب المالكي بصفته التجسيد الوحيد للإسلام (أو) التعبير الوحيد عن الإسلام فبعد سقوط خلافة قرطبة عام (1031م) وتفكك السلطة في إمارات الطوائف والضغط المتزايد لعملية استرجاع إسبانيا من قبل المسيحيين. راح الإسلام يغذي ايديولوجيا كفاحية (هي الجهاد) من أجل تجييش أكبر عدد ممكن من الناس. وهذا ما شجع على ازدياد أهمية دور الفقهاء ثم بشكل أكثر ازدياد أهمية الدعاة الشعبيين والوعاظ، ولذا فبدلًا من أن نتحدث عن «تعصب» المرابطين والموحدين، فإنه ينبغي علينا كمؤرخين أن نتحدث عن الشروط الاجتماعية والايديولوجية لكيفية ممارسة الفكر في الغرب الإسلامي.
فالصعوبات التي اصطدم بها ابن رشد والاعتناق الظاهري أو الصادق لابن ميمون للإسلام كل ذلك يدل على مناخ عام وفيما وراء الحالة الأندلسية فإنه يدل على ذلك الصراع العتيق الذي اندلع في الإسلام بين العلوم العقلانية أو (الدخيلة) وبين العلوم الدينية أو التقليدية (أي النقلية). ويمكن القول إن الصراع الذي جرى بين المعتزلة والحنابلة في بغداد في القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي، يعبر في آن واحد معًا عن انقسام سوسيولوجي ثقافي، ثم عن الحدود الفلسفية الخاصة بملكات المعرفة وطرقها وأماكنها.
كان الغزالي (الذي مات عام (1111م) قد خلع على هذا التضاد بعدًا تأمليًا استحوذ على كل اهتمام ابن رشد بعد قرن من ذلك التاريخ، والواقع أن مؤلف إحياء علوم الدين، قد خاض المعركة ضد النزعة الحرفية الجافة للفقهاء، وضد التركيبات الغنوصية للباطنية، وضد الانحرافات المهرطقة للفلاسفة وكل ذلك باسم الدين الروحاني المنفتح على المعرفة العقلانية الممارسة داخل الحدود الصارمة لظاهرة الوحي، هذه الظاهرة التي تتعالى على كل تفحص نقدي.
لقد اختار ابن رشد الغزالي كمحاور لكي يتقدم فلسفيًا (اليوم نقول علميًا) بالمسألة الحاسمة الخاصة بعلاقات الفلسفة والدين، انظر عنوان كتابه: فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال.. وفيه يرد على كتاب الغزالي الذي يحمل العنوان التالي: فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، ثم حاول ابن رشد في كتاب آخر هو تهافت التهافت أن يرد على كتاب الغزالي تهافت الفلاسفة.
وبشكل عام نلاحظ أن ابن رشد قد حط من قدر منهجية المتكلمين في كتابه الكشف عن مناهج الأدلة. كما أنه ألف رسالة مهمة في أصول الفقه هي بداية المجتهد.
إن كل هذه المؤلفات تبرهن لنا إلى أي مدى كان ابن رشد يريد أن يظل مفكرًا مسلمًا يتحمل فكريًا بكل ثقافته الفلسفية والمعرفة العلمية المتوافرة في عصره، أقول يتحمل مسؤولية جميع المشاكل التي تولّدت عن المقارعة بين ظاهرة الوحي القرآني وبين الموقف الفلسفي المحض الأكثر صرامة. لقد بتر المسيحيون اللاتينيون وعلى أثرهم ارنست رنیان فكر ابن رشد عندما لم يروا فيه إلا الشارح لأرسطو.
وأما المسلمون فقد ارتابوا بالفيلسوف وتوجسوا خيفة منه إلى درجة أنهم نسوا المفكر أو أهملوه تمامًا أي لم يروا إلا الفقيه أو (قاضي القضاة).
1997*
* باحث أكاديمي ومؤرخ جزائري «1928 - 2010»
في الحقيقة أن الموقع السياسي والاجتماعي للفقهاء يمثل أحد المعطيات الدائمة لتاريخ الفعالية الفكرية بشكل عام. والفكر الديني بشكل خاص في الغرب الإسلامي، إن الضغط الايديولوجي القوي كان قد فرض في كل مكان المذهب المالكي بصفته التجسيد الوحيد للإسلام (أو) التعبير الوحيد عن الإسلام فبعد سقوط خلافة قرطبة عام (1031م) وتفكك السلطة في إمارات الطوائف والضغط المتزايد لعملية استرجاع إسبانيا من قبل المسيحيين. راح الإسلام يغذي ايديولوجيا كفاحية (هي الجهاد) من أجل تجييش أكبر عدد ممكن من الناس. وهذا ما شجع على ازدياد أهمية دور الفقهاء ثم بشكل أكثر ازدياد أهمية الدعاة الشعبيين والوعاظ، ولذا فبدلًا من أن نتحدث عن «تعصب» المرابطين والموحدين، فإنه ينبغي علينا كمؤرخين أن نتحدث عن الشروط الاجتماعية والايديولوجية لكيفية ممارسة الفكر في الغرب الإسلامي.
فالصعوبات التي اصطدم بها ابن رشد والاعتناق الظاهري أو الصادق لابن ميمون للإسلام كل ذلك يدل على مناخ عام وفيما وراء الحالة الأندلسية فإنه يدل على ذلك الصراع العتيق الذي اندلع في الإسلام بين العلوم العقلانية أو (الدخيلة) وبين العلوم الدينية أو التقليدية (أي النقلية). ويمكن القول إن الصراع الذي جرى بين المعتزلة والحنابلة في بغداد في القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي، يعبر في آن واحد معًا عن انقسام سوسيولوجي ثقافي، ثم عن الحدود الفلسفية الخاصة بملكات المعرفة وطرقها وأماكنها.
كان الغزالي (الذي مات عام (1111م) قد خلع على هذا التضاد بعدًا تأمليًا استحوذ على كل اهتمام ابن رشد بعد قرن من ذلك التاريخ، والواقع أن مؤلف إحياء علوم الدين، قد خاض المعركة ضد النزعة الحرفية الجافة للفقهاء، وضد التركيبات الغنوصية للباطنية، وضد الانحرافات المهرطقة للفلاسفة وكل ذلك باسم الدين الروحاني المنفتح على المعرفة العقلانية الممارسة داخل الحدود الصارمة لظاهرة الوحي، هذه الظاهرة التي تتعالى على كل تفحص نقدي.
لقد اختار ابن رشد الغزالي كمحاور لكي يتقدم فلسفيًا (اليوم نقول علميًا) بالمسألة الحاسمة الخاصة بعلاقات الفلسفة والدين، انظر عنوان كتابه: فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال.. وفيه يرد على كتاب الغزالي الذي يحمل العنوان التالي: فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة، ثم حاول ابن رشد في كتاب آخر هو تهافت التهافت أن يرد على كتاب الغزالي تهافت الفلاسفة.
وبشكل عام نلاحظ أن ابن رشد قد حط من قدر منهجية المتكلمين في كتابه الكشف عن مناهج الأدلة. كما أنه ألف رسالة مهمة في أصول الفقه هي بداية المجتهد.
إن كل هذه المؤلفات تبرهن لنا إلى أي مدى كان ابن رشد يريد أن يظل مفكرًا مسلمًا يتحمل فكريًا بكل ثقافته الفلسفية والمعرفة العلمية المتوافرة في عصره، أقول يتحمل مسؤولية جميع المشاكل التي تولّدت عن المقارعة بين ظاهرة الوحي القرآني وبين الموقف الفلسفي المحض الأكثر صرامة. لقد بتر المسيحيون اللاتينيون وعلى أثرهم ارنست رنیان فكر ابن رشد عندما لم يروا فيه إلا الشارح لأرسطو.
وأما المسلمون فقد ارتابوا بالفيلسوف وتوجسوا خيفة منه إلى درجة أنهم نسوا المفكر أو أهملوه تمامًا أي لم يروا إلا الفقيه أو (قاضي القضاة).
1997*
* باحث أكاديمي ومؤرخ جزائري «1928 - 2010»