بعد الاجتياح الصدري الثاني للمنطقة الخضراء والاعتصام «العاشورائي» في مبنى مجلس النواب، انبرى رؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان ومجلس القضاء وزعماء الكتل النيابية وحتى قادة الميليشيات للدعوة إلى التهدئة والحوار وتقديم «المصلحة الوطنية العليا» على أي خلاف. ليس لدى هؤلاء جميعًا أي تصوّر واقعي وعملي لحلّ الأزمة المتمادية بـ... السياسة، لأن عراق اليوم، كما عراق النظام السابق، شهد عملية منظّمة متواصلة لقتل السياسة، إذ كانت معدومة تمامًا في الحقبة البعثية، ثم جرت محاولات لإحيائها بعد الغزو الأمريكي، لكن الحقبة الإيرانية حوّلت السياسة إلى «موازين قوى» بين ميليشيات لا عدو لها سوى «الدولة» ولا هدف لها سوى منع إنهاض هذه الدولة أو في أحسن/ أسوأ الحالات إقامة «تسويات» معها لمواصلة نهبها، وبالتالي إضعافها.
توالى أقطاب الأحزاب والكتل على توصيف الوضع العراقي بأنه خطير أو دقيق أو صعب، وحذّروا من الأعداء «المتربصين»، ومن اقتتال أهلي، متفادين القول إنه اقتتال شيعي - شيعي بين الفصائل. كان رئيس الوزراء السابق نوري المالكي أحد الداعين إلى عدم التصعيد، لكنه توقّع «حربًا» في تسجيلاته الصوتية التي سرّبها مريدوه لإنذار القوى الأخرى، ولا سيما خصمه مقتدى الصدر. كان المالكي أُخرج من منصبه، لأن من ساهم مخطئًا أو متقصّدًا أو منفّذًا لخطط إيرانية في ظهور تنظيم «داعش» وانتشاره لا يصلح محاربًا للإرهاب، وقد خرج مالكًا قصرًا وجيشًا من الموالين وأموالًا تكفي لإقامة «دولة داخل الدولة». لم يحفّزه وجوده في رئاسة الوزراء على إعلاء شأن الدولة ومؤسساتها، كما حاول محازبه في «الدعوة» حيدر العبادي، وكما لا يزال يحاول مصطفى الكاظمي غير المنتمي إلى حزب أو فصيل.
ما لا يعترف به سياسيو العراق أنهم ليسوا في وضع صعب، في حالٍ سرطانية متقدّمة، وأنهم يساهمون في استفحالها. أحد أخطر عوامل السرطان أن تكون بداياته مزمنة ولم يحصل أي تشخيص مبكرٍ لها، إذ تمكّن النظام السابق من إخفاء عوارض المرض أو تأجيلها، وما لبثت قرارات الاحتلال الأمريكي أن قتلت أجهزة المناعة عندما حلّت الدولة والجيش والمؤسسات كافة لتعتمد على أتباع إيران في إعادة تأسيسها، ومع تزامن الانسحاب الأمريكي مع اكتمال عناصر الاحتلال الإيراني كان السرطان قد توسّع وأصبح في حاجة إلى علاج منظّم، وكان لا يزال هناك أمل في القضاء على المرض شرط أن يكون الأطباء اكتشفوا المرحلة التي بلغها لتحديد خيارات العلاج. أمسك «الحرس الثوري الإيراني» بالحكم عبر المالكي، معتمدًا عليه وعلى الميليشيات لاحتواء «الجيش» الذي أنشأه الأمريكيون وتوظيفه في إخضاع المكوّنات الأخرى. ضاعت فرصة العلاج فيما تولّت الميليشيات دور الفيروسات كعوامل مساعدة على نمو الخلايا السرطانية التي لا تفاقم المرض فحسب، بل يمكن أن تؤدّي إلى «تغيير جيني» في خلايا الجسم كافةً.
شكّلت الحرب على «داعش» عاملًا آخر لزيادة حال المريض سوءًا، كذلك مواصلة الميليشيات نهشها للدولة عبر الوزارات التي استحوذت عليها، ومثلها استمرار إيران في استحلاب الميزانيات العراقية. كانت «انتفاضة تشرين» في 2019 تفعيلًا للخلايا السليمة، الطامحة للقضاء على الخلايا «المنحرفة» ممثلةً بكل أنواع الفساد الذي حدّدته الانتفاضة عدوها الأول. لكن قوى الفساد وميليشياتها توحّدت ضد «شباب تشرين» واستهدفت الآلاف بين قتيل وجريح ومختطف ومفقود. ومع ذلك أثارت الانتفاضة قلقًا في طهران التي استشعرت أن نفوذها هو المستهدف، وفيما أمرت بسحق ساحات الاحتجاج أجازت تخديرها عبر التوصّل إلى «تسوية» في مجلس النواب عنوانها «انتخابات مبكّرة» تأخّرت حتى تشرين 2021 وعلى الرغم
من كل القمع أطلق العراقيون، بالاقتراع أو بالمقاطعة، رسالة واضحة إلى طهران التي خرج أتباعها خاسرين. وإذ يُطرح حاليًا خيار الذهاب إلى انتخابات مبكّرة جديدة فإن النتائج هذه المرة قد تكون كارثية لمرشحي إيران وميليشياتها. فالبلد يريد أن يعيش، والصراع مستمر بين الخلايا السليمة والمسرطنة.
لم يبدِ الوسط السياسي حرصًا كبيرًا على حقن الدماء خلال المواجهة مع «شباب تشرين» مقدار حرصه الآن على منع الاقتتال. وحين وصل قائد «فيلق القدس» إسماعيل قاآني إلى بغداد كان حاملًا توصية واحدة: الاقتتال الشيعي - الشيعي ممنوع. لم يكن لديه أي مشروع للتهدئة أو لإطلاق «حوار» بين الصدريين و«الإطاريين»، غير أن الاقتحام الأول للمنطقة الخضراء والبرلمان عبّر عن مزاج المرحلة المناقض لتوصية «الحرس». وخلال الاقتحام الثاني تردّدت أنباء عن إمكان توجّه الصدريين إلى مقر إقامة المالكي، فقوبلت بأن «الإطاريين» قد يدفعون بأتباعهم إلى مقر إقامة الكاظمي. قد تكون تلك إشاعات لكنها تؤشّر إلى نيات، إذ إن الشارع كما المتابعون والمحللون يقولون اليوم إن مقتدى الصدر الذي غرّد ناصحًا المالكي باعتزال السياسة لن يرضى بأقل من ذلك. أما بالنسبة إلى الكاظمي فإن «الإطار التنسيقي» اتهمه بأنه «سهّل» الاقتحام الذي أطاح عمليًا «مرشح المالكي» لرئاسة الوزراء محمد شياع السوداني.
لم يكن الكاظمي خيارًا إيرانيًا طبيعيًا بل قسريًا، بعدما تعذّر توافق الكتل الشيعية عام 2020 على مرشح لرئاسة الوزراء، لكن وجوده في المنصب لم يكن مريحًا لطهران ومواليها في بغداد، كما أن ما يُرى ولا يُرى مما استطاع الكاظمي إنجازه، داخليًا وخارجيًا، ضاعف عداء الميليشيات له إلى حدّ محاولة اغتياله بمسيّرة مفخخة. لا بد أن طهران باتت تدرك الآن الحال السرطانية التي غرق فيها أتباعها، أما أن تعترف بها فهذه مسألة أخرى، وأما أن تتصدّى لعلاجها فهذا يفتقد الإرادة والقدرة، وطالما أن مقوّمات نفوذها لا تزال قائمة فإن تشخّص مصلحتها في دوام معاناة المريض، تحديدًا لأن شفاءه سيرتدّ عليها.
مرّة أخرى تجد طهران أن خيار الكاظمي لا يزال الأفضل لديها، خصوصًا أنه فتح لها قناة الحوار مع السعودية، لكنها تبدو عاجزة عن/ غير راغبة في مساعدته على مواجهة الاستعصاء السياسي أو ما وصفه بـ «التشنج السياسي» في الداخل. الواقع أنه في الحال السرطانية المتقدّمة تصعب «التسويات»، وإذا جُرّبت تكرارًا فقد أصبح واضحًا أنها لا تفيد بل تديم عوارض المرض وتفاقمها. لا الصدريون ولا «الإطاريون» ولا الأكراد ولا السنّة قادرون على التنازل، ولا حكومة طوارئ أو حكومة انتقالية أو حتى انتخابات مبكّرة يمكن التوافق عليها في اللحظة الراهنة، أقلّه للبحث عن حلّ، أو لمباشرة العلاج.
* ينشر بالتزامن مع النهار العربي.
توالى أقطاب الأحزاب والكتل على توصيف الوضع العراقي بأنه خطير أو دقيق أو صعب، وحذّروا من الأعداء «المتربصين»، ومن اقتتال أهلي، متفادين القول إنه اقتتال شيعي - شيعي بين الفصائل. كان رئيس الوزراء السابق نوري المالكي أحد الداعين إلى عدم التصعيد، لكنه توقّع «حربًا» في تسجيلاته الصوتية التي سرّبها مريدوه لإنذار القوى الأخرى، ولا سيما خصمه مقتدى الصدر. كان المالكي أُخرج من منصبه، لأن من ساهم مخطئًا أو متقصّدًا أو منفّذًا لخطط إيرانية في ظهور تنظيم «داعش» وانتشاره لا يصلح محاربًا للإرهاب، وقد خرج مالكًا قصرًا وجيشًا من الموالين وأموالًا تكفي لإقامة «دولة داخل الدولة». لم يحفّزه وجوده في رئاسة الوزراء على إعلاء شأن الدولة ومؤسساتها، كما حاول محازبه في «الدعوة» حيدر العبادي، وكما لا يزال يحاول مصطفى الكاظمي غير المنتمي إلى حزب أو فصيل.
ما لا يعترف به سياسيو العراق أنهم ليسوا في وضع صعب، في حالٍ سرطانية متقدّمة، وأنهم يساهمون في استفحالها. أحد أخطر عوامل السرطان أن تكون بداياته مزمنة ولم يحصل أي تشخيص مبكرٍ لها، إذ تمكّن النظام السابق من إخفاء عوارض المرض أو تأجيلها، وما لبثت قرارات الاحتلال الأمريكي أن قتلت أجهزة المناعة عندما حلّت الدولة والجيش والمؤسسات كافة لتعتمد على أتباع إيران في إعادة تأسيسها، ومع تزامن الانسحاب الأمريكي مع اكتمال عناصر الاحتلال الإيراني كان السرطان قد توسّع وأصبح في حاجة إلى علاج منظّم، وكان لا يزال هناك أمل في القضاء على المرض شرط أن يكون الأطباء اكتشفوا المرحلة التي بلغها لتحديد خيارات العلاج. أمسك «الحرس الثوري الإيراني» بالحكم عبر المالكي، معتمدًا عليه وعلى الميليشيات لاحتواء «الجيش» الذي أنشأه الأمريكيون وتوظيفه في إخضاع المكوّنات الأخرى. ضاعت فرصة العلاج فيما تولّت الميليشيات دور الفيروسات كعوامل مساعدة على نمو الخلايا السرطانية التي لا تفاقم المرض فحسب، بل يمكن أن تؤدّي إلى «تغيير جيني» في خلايا الجسم كافةً.
شكّلت الحرب على «داعش» عاملًا آخر لزيادة حال المريض سوءًا، كذلك مواصلة الميليشيات نهشها للدولة عبر الوزارات التي استحوذت عليها، ومثلها استمرار إيران في استحلاب الميزانيات العراقية. كانت «انتفاضة تشرين» في 2019 تفعيلًا للخلايا السليمة، الطامحة للقضاء على الخلايا «المنحرفة» ممثلةً بكل أنواع الفساد الذي حدّدته الانتفاضة عدوها الأول. لكن قوى الفساد وميليشياتها توحّدت ضد «شباب تشرين» واستهدفت الآلاف بين قتيل وجريح ومختطف ومفقود. ومع ذلك أثارت الانتفاضة قلقًا في طهران التي استشعرت أن نفوذها هو المستهدف، وفيما أمرت بسحق ساحات الاحتجاج أجازت تخديرها عبر التوصّل إلى «تسوية» في مجلس النواب عنوانها «انتخابات مبكّرة» تأخّرت حتى تشرين 2021 وعلى الرغم
من كل القمع أطلق العراقيون، بالاقتراع أو بالمقاطعة، رسالة واضحة إلى طهران التي خرج أتباعها خاسرين. وإذ يُطرح حاليًا خيار الذهاب إلى انتخابات مبكّرة جديدة فإن النتائج هذه المرة قد تكون كارثية لمرشحي إيران وميليشياتها. فالبلد يريد أن يعيش، والصراع مستمر بين الخلايا السليمة والمسرطنة.
لم يبدِ الوسط السياسي حرصًا كبيرًا على حقن الدماء خلال المواجهة مع «شباب تشرين» مقدار حرصه الآن على منع الاقتتال. وحين وصل قائد «فيلق القدس» إسماعيل قاآني إلى بغداد كان حاملًا توصية واحدة: الاقتتال الشيعي - الشيعي ممنوع. لم يكن لديه أي مشروع للتهدئة أو لإطلاق «حوار» بين الصدريين و«الإطاريين»، غير أن الاقتحام الأول للمنطقة الخضراء والبرلمان عبّر عن مزاج المرحلة المناقض لتوصية «الحرس». وخلال الاقتحام الثاني تردّدت أنباء عن إمكان توجّه الصدريين إلى مقر إقامة المالكي، فقوبلت بأن «الإطاريين» قد يدفعون بأتباعهم إلى مقر إقامة الكاظمي. قد تكون تلك إشاعات لكنها تؤشّر إلى نيات، إذ إن الشارع كما المتابعون والمحللون يقولون اليوم إن مقتدى الصدر الذي غرّد ناصحًا المالكي باعتزال السياسة لن يرضى بأقل من ذلك. أما بالنسبة إلى الكاظمي فإن «الإطار التنسيقي» اتهمه بأنه «سهّل» الاقتحام الذي أطاح عمليًا «مرشح المالكي» لرئاسة الوزراء محمد شياع السوداني.
لم يكن الكاظمي خيارًا إيرانيًا طبيعيًا بل قسريًا، بعدما تعذّر توافق الكتل الشيعية عام 2020 على مرشح لرئاسة الوزراء، لكن وجوده في المنصب لم يكن مريحًا لطهران ومواليها في بغداد، كما أن ما يُرى ولا يُرى مما استطاع الكاظمي إنجازه، داخليًا وخارجيًا، ضاعف عداء الميليشيات له إلى حدّ محاولة اغتياله بمسيّرة مفخخة. لا بد أن طهران باتت تدرك الآن الحال السرطانية التي غرق فيها أتباعها، أما أن تعترف بها فهذه مسألة أخرى، وأما أن تتصدّى لعلاجها فهذا يفتقد الإرادة والقدرة، وطالما أن مقوّمات نفوذها لا تزال قائمة فإن تشخّص مصلحتها في دوام معاناة المريض، تحديدًا لأن شفاءه سيرتدّ عليها.
مرّة أخرى تجد طهران أن خيار الكاظمي لا يزال الأفضل لديها، خصوصًا أنه فتح لها قناة الحوار مع السعودية، لكنها تبدو عاجزة عن/ غير راغبة في مساعدته على مواجهة الاستعصاء السياسي أو ما وصفه بـ «التشنج السياسي» في الداخل. الواقع أنه في الحال السرطانية المتقدّمة تصعب «التسويات»، وإذا جُرّبت تكرارًا فقد أصبح واضحًا أنها لا تفيد بل تديم عوارض المرض وتفاقمها. لا الصدريون ولا «الإطاريون» ولا الأكراد ولا السنّة قادرون على التنازل، ولا حكومة طوارئ أو حكومة انتقالية أو حتى انتخابات مبكّرة يمكن التوافق عليها في اللحظة الراهنة، أقلّه للبحث عن حلّ، أو لمباشرة العلاج.
* ينشر بالتزامن مع النهار العربي.