عبدالوهاب بدرخان

خلال أقل من أربع وعشرين ساعة على توقيع اتفاق إسطنبول لتصدير الحبوب الأوكرانية، اختلط الترحيب بهذا الاتفاق ومساهمته المتوقعة في إبعاد شبح المجاعات، مع الإدانة «بشكل لا لبس فيه» (أنطونيو غوتيريش) للقصف الروسي لميناء أوديسا الذي يُفترض أن يكون منطلق شحنات الحبوب. هذا القصف يعكس طريقة تفكير الرئيس الروسي، إذ يُظهر من جهة أنه قادر على استجابة مساعي الأمم المتحدة وتركيا لتجنيب عشرات البلدان أزمات غذائية، ومن جهة أخرى أنه لن يتساهل في تمكين أوكرانيا من بيع محاصيلها من دون تدفيعها ثمن معاندته. فلا مصلحة له في حل أزمتي الطاقة أو الغذاء طالما أنهما تُربكان دول الغرب. لم تنفِ موسكو علاقتها بالقصف، لكن وزير الدفاع التركي تبرع بالنفي نيابةً عنها. وكانت أنقرة نفت الأربعاء الماضي أن تكون قواتها قصفت منتجعًا سياحيًا في محافظة دهوك (شمال غربي العراق)، وأسقطت عشرات المدنيين بين قتيل وجريح، لكن بغداد حملتها المسؤولية وطالبتها بسحب قواتها من شمال العراق.

الأرجح أن «اتفاق الحبوب» سينفذ في مواعيده خلال الأسابيع المقبلة لكن بطريقة فلاديمير بوتين الذي لا يعتبره عائقًا أمام متابعة الحرب وفقًا لخططها، ولا حصانة فيها لأوديسا ومينائها أو لغيرها من المدن. كان بوتين عائدًا لتوه من طهران وقد أثارت رحلته تساؤلات كثيرة عما عنته وما قد تكون أنجزته. تنقسم التقديرات في هذا السياق بين القول إنها عكست «تراجعًا» في مكانة الرئيس الروسي بدليل حاجته إلى إيران، والقول إنها على العكس عززت موقفه عسكريًا وسياسيًا في أوكرانيا – باستقطاب إيران إلى حربه. وطبعًا هناك من يرى أن دوافع استراتيجية مهمة حضته على السفر لحضور قمة «ثلاثي استانا»، وقد يكون أهمها الرد على تحرك جو بايدن في المنطقة، لكن ليس بينها تحسسٌ ما من دول الخليج، وبالأخص السعودية، لأن علاقات المصالح بينها وبين روسيا تسير بانتظام، كما أن موقفها المبدئي ضد غزو أوكرانيا والعقوبات التي استجرها لم يثر استياء موسكو. ثم إن استقبال سيرغي لافروف في الجامعة العربية للاستماع إلى أطروحاته في تبرير وما بعده يُظهر تعاملًا ديبلوماسيًا غير عدائي.

قبل غزو أوكرانيا كانت روسيا وإيران تناقشان بنود اتفاق «استراتيجي» على غرار ذلك الذي وقعته بكين وطهران في آذار (مارس) 2021 وربط بين بلديهما في مجالات اقتصادية وتجارية لخمس وعشرين سنة مقبلة. كانت إيران تحاول آنذاك بناء بدائل تمكنها من الالتفاف على العقوبات الأمريكية وعلى احتمالات إحياء الاتفاق النووي، ولذا كانت أكثر حماسًا من روسيا لإنجاز الاتفاق. أما الآن فيلمس المراقبون اندفاعًا روسيًا أكبر مقابل حذر إيراني، فعلى الرغم من أن طهران مؤيدة للأهداف الروسية الكبرى من غزو أوكرانيا، وبالأخص كسر هيمنة الولايات المتحدة والدول الغربية وإضعاف حلف «الناتو»، إلا أنها لم تتلمس مصالحها أو مكانتها بعد في هذا التوجه، فهي تطمح إلى أن تكون العضو الثالث في «ترويكا النظام العالمي الجديد» إلى جانب روسيا والصين.

لكن، قبل ذلك، تجد إيران نفسها عالقة في مسار متشعب. فهي ربما ترغب في إبداء انحياز واضح إلى روسيا لكن إفشال المفاوضات النووية يخسرها ورقة تستخدمها في مساومات عدة (غير نووية)، بمقدار ما يخسرها المكاسب التي تتشدد في الحصول عليها من رفع العقوبات لقاء إحياء الاتفاق النووي. لذلك يبدو التقارب مع روسيا في الظروف الراهنة بمثابة شروع في التخلي كليًا عن أي علاقات مع الدول الغربية، وعلى الرغم مما تظهره إيران فإنها ليست جاهزة بعد لمثل هذا الخيار. يضاف إلى ذلك أنها تضررت أخيرًا من العقوبات التي ضربت روسيا، إذ إن الصين والهند تركتا نفطها لتشتريا النفط الروسي بأسعاره المخفضة. ولا يقتصر تضارب المصالح مع روسيا على النفط بل يمتد إلى قطاعات أخرى، بحيث تغدو مساعدة موسكو للالتفاف على العقوبات بمثابة «تضحية» بمصلحة إيرانية في سبيل القضية الكبرى ضد الغرب.

ليست في الأمر تضحية، إذ تخلل زيارة بوتين لطهران اتفاق بين «غازبروم» الروسية وشركة النفط الإيرانية لاستثمار أربعين مليار دولار في تطوير حقول غاز ونفط. هذا استثمار روسي في إيران نفسها، كما في الهدف الاستراتيجي بعيد المدى، فالتحكم بسوق الطاقة وبإمدادات الحبوب والزيوت بات من مقومات «النظام العالمي الجديد». إلى ذلك، عنى هذا الاتفاق أن موسكو تحاول تعويض طهران عن حصتها الضئيلة حاليًا في سوق النفط، وبالتالي حفزها على عدم التراجع عن شروطها لتوقيع الاتفاق النووي بعدما ساهمت روسيا نفسها في عرقلته. في هذا السياق تصبح صفقة الطائرات المسيرة مجرد تفصيل، عدا الدعاية الواسعة التي حظي بها هذا المنتج الحربي الإيراني.

غير أن طهران تعتبر أن سعي موسكو إلى رفع مستوى العلاقة الاستراتيجية معها فرصة ينبغي أن توفر لها مكاسب عسكرية، كالحصول على منظومات صواريخ «اس 400» وغيرها، أو توفير مزيد من الدعم لبرنامجها النووي، وحتى الوصول إلى تغطية روسية لبلوغ السلاح النووي طالما أن خبراء إيران يتخلون تباعًا عن الغموض في شأن هذا الهدف. كل ما يمكن أن يغير موازين القوى دوليًا وإقليميًا هو موضع ترحيب روسي، لكن بشرط أن يمكنها من الحفاظ على نفوذها وخوض مساومتها مع الدول الغربية.

لا بد أن الجانبين الروسي والإيراني تطرقا إلى نقاط التماس الأخرى بين مصالحهما ومدى مساهمتها في تحدي النفوذ الأمريكي والغربي. كان انشغال روسيا بالحرب في أوكرانيا أتاح لإيران فرصًا لتوسيع نفوذها في سورية، وقد تخلصت علاقتهما هناك من بعض الحساسيات التي شابتها في الأعوام الماضية، لكن روسيا لا تبدو متجهة في المدى القصير إلى تجميد تنسيقها مع إسرائيل على الرغم من استيائها المتصاعد من موقفها من أوكرانيا، فالضربات الإسرائيلية لا تزال تلبي حاجة روسية إلى ضبط التوازن في سورية. هذا لا يسري على الوجود الأمريكي في الشمال الشرقي وفي الجنوب، إذ إن الروس والإيرانيين متفقون على التخلص منه، وقد استخدموا إصرار تركيا على توسيع «المنطقة الآمنة» لاستمالتها إلى هذا الهدف. قد تكون مطالبة رجب طيب إردوغان بالانسحاب الأمريكي من تلك المنطقة خطوة لنيل موافقة روسية - إيرانية على عملية تركية محدودة ضد الأكراد، لكن الشريكين الآخرين في «ثلاثي استانا» متفقان أساسًا على توسيع سيطرة نظام بشار الأسد وعلى إبقاء رقعة النفوذ التركي على حالها موقتًا في انتظار التخلص منه.

* ينشر بالتزامن مع النهار العربي