عبدالوهاب بدرخان

لا تستحق ما تسمى «ألوية الوعد الحق» العراقية أي عناء للبحث عن هويتها، لأنها اسم وهمي تستخدمه إحدى الجماعات العراقية المسلحة الموالية لإيران، فلا حق ولا وعد، وبالتأكيد لا ألوية. كان هذا الاسم استخدم قبل عام للتوقيع على استهداف ما وصف بأنه «هدف حيوي» في الرياض، وأعيد استخدامه لتبني «الألوية» مسؤولية إطلاق أربع طائرات مسيرة على أراضي الإمارات. وفي المرتين نسب الاعتداء إلى «أبناء الجزيرة العربية» للإيحاء بأن إيران باتت تعتمد على «معارضين» أو أتباع خليجيين في صفوف ميليشياتها. لا تختلف «الألوية» عن «عصائب أهل الحق» و«كتائب حزب الله»، بل إنها من صلبهما وإن اتخذت أسماء آنية مثل «أهل الكهف» و«ثأر المهندس» و«ربع الله»، إلخ... ولا جدال في أن عملية «الألوية» ضد أبوظبي وتلك التي سبقتها ضد الرياض نفذتا بموافقة طهران وبطلب منها. لذلك فإن دلالة البيان الصادر عن «الألوية» أكثر أهمية من المسيرات التي دمرت ولم تصل إلى أهدافها.

لم يرد في ما نقله الإعلام الإيراني عن وزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان، خلال اتصاله بنظيره الإماراتي الشيخ عبدالله بن زايد، أي تنديد بهجمات الحوثيين و«الألوية» العراقية بل عرض لـ«مطالب» طهران وشرح مفصل يتبنى دوافع المعتدين وأسبابهم، سواء في ما يتعلق باستمرار حرب اليمن و«انتشار رقعة الاشتباكات» أو بالنسبة إلى «وجود الكيان الصهيوني في المنطقة». ليس فقط أن النظام الإيراني لا يفكر حالياً في أي «حلول سياسية» في اليمن والعراق وسورية ولبنان، أو أنه يراجع سلوكه الإقليمي بموازاة اقتراب التوصل إلى اتفاق في المفاوضات النووية، بل إنه على العكس يعتبر المرحلة الراهنة مناسبة لمضاعفة اعتماده على الميليشيات التي تعمل بالوكالة عنه «لتنفيذ عملياته القذرة»، وفقاً لتوصيف الجنرال فرانك ماكينزي، قائد القيادة الأمريكية المركزية الوسطى.

لعل ما بدأ في خطط إيران هي مرحلة الاستهداف المباشر لدول الخليج، تحديداً السعودية والإمارات، فضلاً عن البحرين التي وقعت لتوها اتفاقاً دفاعياً مع إسرائيل، هو الأول من نوعه مع دولة خليجية، وبمعزل عن الظروف المباشرة لهذا الاتفاق، والجدل الذي يثيره، يمكن أن يفهم في سياق تقديرات والمخاطر الراهنة والمتوقعة. طوال أعوام لم يغب هذا «الهدف الخليجي»، تحديداً السعودي، عن خطاب إيران، مرشداً و«حرساً» وملالي، كذلك خطاب ميليشيات «الحرس»، خصوصاً «حزب الله الإرهابي اللبناني». وكان الهدف ولا يزال نقض المرجعية الدينية الراسخة للسعودية، وزعزعة استقرارها السياسي والاقتصادي خليجياً وعربياً ودولياً، فما يمس بالمكانة السعودية ينعكس تلقائياً على سائر دول الخليج.

أربعة عوامل تشجع طهران على الشروع في رفع درجة استعدادها لـ«الحرب» على دول مجلس التعاون: 1) اعتقادها بأن إستراتيجيتها بلغت غاياتها في المشرق العربي وفصلته عن الخليج، ولا بد من استكمالها الآن في الخليج نفسه. 2) يقينها بأن ما حققته يضمن لها لاحقاً الحصول على النفوذ الذي توخته وإن تأخر في حساباتها. 3) استنتاجها أن ثمة ارتباكاً أمريكياً وأوروبياً تجاهها وشعورها بأنها وإن لم تحقق بعد هدف «طرد الأمريكيين من المنطقة» فقد فرضت عليهم حالاً غبر مسبوقة من الخطر على جنودهم واضطرتهم لتغيير خريطة انتشارهم. 4) ارتياحها إلى الأداء الأمريكي في مفاوضات فيينا وكذلك لـ«إيجابيات» ضغوط إدارة جو باين على إسرائيل ودول الخليج لتقبل الاتفاق النووي المرتقب.

خلال هذا الأسبوع تستأنف مفاوضات فيينا، وتستبقها توقعات بأن «الاتفاق الجيد» أصبح ممكناً، بعد موافقة واشنطن وطهران على التفاوض المباشر. ليس وارداً رفع كل العقوبات دفعة واحدة كما اشترط الجانب الإيراني بل الخطوة خطوة (تطبيق الالتزامات النووية مقابل رفع جانب من العقوبات)، وليس وارداً أن يصر الجانب الأمريكي، في هذه المرحلة، على فتح أي ملف تعتبره إيران خارج الشأن النووي، فالأولوية عنده لإبطاء التقدم الإيراني المتسارع نحو «العتبة النووية»، ووقف المسار الذي يؤمن لطهران قنبلتها خلال سنة. لن تحصل إيران على «ضمانات» تطلبها لعدم التراجع عن الاتفاق ولتقييد الإدارة والكونجرس الأمريكيين، ولن تحصل أمريكا على أي تنازل في البرنامج الصاروخي أو السياسات الإقليمية لإيران.

بهذه الملامح سيخرج «الاتفاق الجيد»، ويكمن فيه مفتاح المرحلة المقبلة بالنسبة إلى طهران التي تراهن، كما يروج بعض المصادر في دمشق وبيروت، على تعافيها المالي والاقتصادي لاستكمال إستراتيجية الهيمنة والنفوذ في الإقليم. فهي، كالعادة، استغلت التفاوض لتمرير مقدمات لسياساتها الآتية، وكما نفذت خططها في سورية والعراق واليمن ولبنان بتغاض من إدارة باراك أوباما قبل اتفاق 2015، تعتقد أنها نجحت في استغلال أزمتها مع إدارة دونالد ترمب لإشاعة واقع حرب بالوكالة في الخليج من خلال حرب اليمن، وما تفعله الآن هو توسيع هذه الحرب لجعلها أكثر تهديداً للسعودية والإمارات، سعياً إلى اختراق التضامن بين دول مجلس التعاون.

يذكر أن إيران استطاعت، خلال التفاوض السابق، أن تستبق اتفاق 2015 بسلسلة وقائع محورية عززت عبثها في البلدان العربية الأربعة. في 2014 كانت لها مساهمة أساسية، مع نظامي بغداد ودمشق، في إظهار تنظيم «داعش» وتمكينه من إنشاء «دولته»، وما تلا ذلك من حروب وتداعيات. وفي العام نفسه انقلب أتباعها الحوثيون على الحكومة الشرعية فأشعلوا الحرب المستمرة. وفي 2015 عقدت اتفاقاً مع روسيا للتدخل في سورية، فيما فرضت حالاً سياسية مكنتها من استنخاب رئيس يضمن احتلالها للبنان. ومنذ منتصف 2021 استغلت التفاوض النووي لإحباط مبادرات أممية وأمريكية وسعودية لإنهاء الحرب في اليمن.

بات الخراب العميق الذي أحدثته إيران في البلدان الأربعة أوراق مساومة في يدها، وقد برهنت أنها قادرة على تحريك «داعش» واستغلاله، وحين تتراجع فاعليته فإن ميليشياتها تقوم بوظيفته («الحشد الشعبي» في العراق، «حزب الله» في لبنان). والأهم أنها قادرة على تعطيل أي حلول سياسية (سورية واليمن)، وعلى إحباط أي تغيير سياسي (العراق ولبنان). كانت رسالة إيران إلى الدول المعنية ولا تزال أن الخراب الحاصل في الإقليم لا يمكن إصلاحه بسهولة، أو بحلول تقليدية، ولا يمكن وقفه إلا بالتعاون معها أو بتفويضها، ولفت الأنظار حصراً نحو الخطر الصهيوني.

* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»