عواجي النعمي

من قصص التاريخ عن تأثير البيئة والمجتمع في تحسين لغة الحوار واختيار الكلمات المؤثرة، والابتعاد عن الألفاظ التي قد تعكس معنى مغايرا أو فهما غير سليم، قصة الشاعر علي بن الجهم، والذي كان يعيش بالبادية، وخرج منها قاصدا الخليفة العباسي المتوكل ليمدحه بلسان البدوي الفصيح إلا أن خياله لم يسعفه في اختيار الكلمات الجيدة فقال مادحا:

أنت كالكلب في حفاظك للود ... وكالتيس في قراع الخطوب

ورغم صعوبة التشبيه إلا أن الخليفة المتوكل لم يغضب، وأدرك نبل الشاعر وسلامة مقصده وخشونة ألفاظه، وأنه أتى بالتشبيهات والتراكيب وفق معيشته وليس خياله، ثم أمر الخليفة الشاعر بالمكوث في بغداد ليعود إليه بعد سنة؛ ليقول قصيدته الخالدة:

عيون المها بين الرصافة والجسر ... جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

ورغم الاختلاف التاريخي في أصل ومصداقية القصة إلا أنها تؤكد سلامة اختيار الألفاظ والكلمات التي تؤثر في نفوس الآخرين، وتنعكس على طبيعة التعامل معهم.

وفي قصة أخرى دخل عمرو بن الاهتم والزبرقان بن بدر على الرسول -صلى الله عليه وسلم- فسأل النبي -عليه السلام- عمرا عن الزبرقان، فقال إنه مطاع في أدْنَيه، شديد العارضة، مانع لما وراء ظهره، فقال الزبرقان والله يا رسول الله إنه ليعلم مني أكثر من هذا ولكنه حسدني..

فقال عمرو: أما والله إنه لزَمِر المروءة، ضيّق العَطَن، أحمق الوالد، لئيم الخال، والله يا رسول الله ما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الأخرى، ولكني رجل رضيت، فقلت أحسن ما علمت، وسخطت فقلت أقبح ما وجدت.. فقال -عليه الصلاة والسلام- إن من البيان لسحرا، وهو أن بعض الكلام يظهر الحق باطلا والباطل حقا.

وقيل إن العجب كان من مدحه وذمه وبكل صدق ودون الحاجة للكذب والافتراء عليه، وهذه حادثة تؤكد أن حالات الغضب وعدم الرضا قد تخرج من الإنسان أسوأ ما لديه من تعابير وكلمات، ومن الأقوال المأثورة (رب كلمة قالت لصاحبها دعني)، وهي أن ملكاً من ملوك حمير خرج ليصيد، وكان معه نديم له يسليه ويرافقه، فأشرف الملك على صخرة ملساء ووقف عليها، فقال له نديمه: لو أن إنساناً ذُبح على هذه الصخرة إلى أين كان يبلغ دمه؟ فقال الملك: اذبحوه عليها ليرى دمه أين يبلغ.. فذُبح عليها!

فقال الملك: (رُبَّ كلمة تقول لصاحبها دعني..)، وعندما سأل معاذ بن جبل النبي -عليه السلام- هل نحن مؤاخذون بما نقول فأجابه -عليه السلام- ويحك يا معاذ وهل يكب الناس على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم.

ويقال إن الشعراء طرفة بن العبد، والمتنبي، وابن الرومي لم تقتلهم إلا ألسنتهم وفحش أقوالهم، فهذا القاسم بن عبيدالله بن وهب كان وزيرا للمعتضد، وكان يخشى ابن الرومي وهجوه فدعاه إلى مجلسه ودس له حلوى مسمومة، فلما أكلها أحس بالسم وهم بالمغادرة فقال له الوزير إلى أين تذهب؟ فقال ابن الرومي إلى المكان الذي بعثتني إليه، فرد عليه الوزير قائلا: «سلم لي على والدي»، فأجابه: «ما طريقي إلى النار»!.

وأخيرا يقول الله - سبحانه وتعالى: (ضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصلُها ثابِتٌ وَفَرعُها فِي السَّماءِ)، إن الكلمة الطيبة سبب من أسباب تحقيق الألفة والمودة وصدقة يؤديها المسلم، وشعبة من شعب الإيمان.