أوصى رجل عجوز ابنه، فقال: الفشل سر النجاحات الحقيقية، فانتبه يا ولدي.. لا تخسر فشلك، لا تخسر فشلك، لا تخسر فشلك. كان يخاف على ابنه من ضياع العمر في النجاحات الكاذبة، فمن ذاق طعم الفشل ميَّز طعم النجاح الحقيقي، ومن نسي طعم الفشل تاه عن حقيقة النجاح إلى الزيف والادعاء.
كان العجوز يخشى على ابنه المادحين الذين يضخمون قفزته من رأس البئر كأنها شجاعة عنترة أو صولة الأسد، كان العجوز يخشى على ابنه المادحين الذين يضخمون صعوده إلى أعلى الجبل الصغير كأنه صعد الهيمالايا أو شرب القهوة أعلى إفرست.
كان العجوز يرتاح عندما يرى ابنه تائها حائرا باكيا، ليقول له: تلك دموع النساء العاجزات، استبدل تعويذة بها تعيدها على نفسك في كل تيه وحيرة تصادفك.. كرر يا ولدي: لا تحسبن المجد تمرا أنت آكله.. لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا.
كان الابن يسمع أمه العجوز تصيح عليه منذ خطواته الأولى: انتبه يا ولدي.. لا ترفع رأسك أبدا.. عينك على طريقك.. لا تسقط أو تتعثر، وانتبه على قدميك من شوك الطريق. وفي المقابل، يسمع والده العجوز يوصيه بثقة عالية: ابق مرفوع الرأس.. عينك معلقة بالسماء.. اعرف موقعك من الشمس نهارا، واحفظ موقع نجم الشمال، وتعرف على نجم الثريا، ولا تغفل عن نجمة سهيل، كي لا تضيع قافلة حياتك في صحراء الهوى والتيه. قاطع الابن والده العجوز، وحكى له وصية أمه بألا يرفع عينه عن الأرض، فتبسم العجوز، وقال: حياة أمك بين الجبال الشاهقة، تلتفت للسماء عند أوقات الصلاة فقط وعند النوم، استغراقا في الأحلام، فأبناء الجبال خوفي السقوط من شاهق لا يملكون رفاهية مشاة النظر للأعلى.. أمك عاشت طيلة عمرها بلا أفق.. الطريق المستوي في حياتها «الوادي» وسط الجبال. قاطعه ابنه مدافعا: لكن أمي تحكي ليّ عن قمم الجبال والسحاب من تحتها، فقال له العجوز بغضب: هذا يا ولدي ما جعلها تتوهم نفسها فوق الأرض، فعاشت حبيسة الجبال طيلة عمرها.. لولا مغامرتي الأولى بها، مسافرا خارج وادينا (وادي الأمل)، لكانت حبيسة أمل لا يتجاوز طموح الفلاحين والرعاة في موسم أمطار جيد، يروي أرضهم لمحاصيلهم وأغنامهم.
كان عجوزا مغامرا في شبابه، تثني على مغامراته، فيقول لك: اسكت لن «أخسر فشلي» بمديحك، ثم يسترسل في الحديث: مغامرتي التي قطعتني عن «وادي الأمل» طيلة عمري سببها أني يتيم، لا أب أو أم، سوى أختين وعم كريم، أخذنا ضمن أبنائه، وكان عمي ينادي عليّ، لأستريح من حرث الأرض بالثيران، ويسولف معي، فأقول له: يا عم ما الذي وراء جبالنا هذه؟، فيقول: جبال أخرى، فأقول له: وماذا بعدها؟، فيقول: بعدها جبال مثلها عن يمينها صحراء وعن يسارها ساحل وبحر حتى تصل إلى مكة، وإن عكست سيرك وصلت إلى صنعاء. يقول العجوز: فكنت أجمع في نفسي هذه المعلومات كخارطة طريق لسفري الذي أنويه بعيدا عن «وادي الأمل»، لكن أختي الصغرى كانت تجلس معي أحيانا، وتحدثني وهي تفلي رأسي من القمل والصيبان، وتقول: اصبر يا أخي.. كيف تسافر وتترك «وادي الأمل»، وجباله العزيزة على قلوبنا من أيام أمنا صالحة، وهي تغمس لنا الخبزة في السمن والعسل، وقد عقرنا الجدري فتركنا وقتلها، وهذا عمنا، أخو أبونا، يسافر لأقصى بلاد البحر، يستأجر الجِمَال، محملة بكل ما لذ وطاب، ويعود بها لوادينا (وادي الأمل). يقول العجوز: كنت أربت على كتف أختي الصغيرة اليتيمة، تعزيزا لها، وأنا أضمر السفر، بحثا عن حياة جديدة بعيدا عن «وادي الأمل» الذي لم أر فيه ما يسميه الناس «الأفق»، فعن يميني جبل وعن يساري جبل، وأعلى الجبال قد ترى أفقا يعطيك وهم السيطرة الكاذبة على العالم حولك.. صحيح أنك تعيش حياة الصقر في أعلى الجبل، لكنك ترتطم بحقيقة القرود تزاحمك المكان، متناسيا أن الصقر إذا ضاق بالمكان «ستل جناحه ثم حام... يرقى على متن الهوى....)، بينما البشر يعيشون أقدار المشي (ولا جناح لي واطير والأرض صارت لي مقر).
سافر الأب العجوز، وصنع مغامرته التي جعلت الابن لا يعرف «وادي الأمل» إلا زائرا، ومستذكرا حكايات الآباء والأجداد مع القمل والصيبان، وعلاج الأمراض بالحديد والنار كدواء شامل، لا يختلف فيه سوى مكان الكي من الجبهة والرقبة إلى أسفل القدمين.
بقي الابن مستذكرا وصية والده العجوز (لا تخسر فشلك، لا تخسر فشلك، لا تخسر فشلك)، محاولا فهم معناها العميق حتى صادف في الكتب عبارة أشد قسوة وعمقا من عبارة أبيه تقول: «عجبا لأولئك الذين ضيعوا أعمارهم في جمع مؤهلات النجاح.. لماذا لم يتجهوا للنجاح مباشرة؟!»، ليدرك متأخرا أن النجاح الحقيقي «عطاء»، والنجاح المزيف «أخذ»، ولهذا كان جمع مؤهلات النجاح ليس نجاحا حقيقيا، لأنه «أخذ»، بينما الاتجاه للنجاح مباشرة هو «عطاء» لا يعرف الحدود، فإن تأخذ «شهادة عليا في الإعلام، أو منصبا إعلاميا مرموقا في وزارة» لا علاقة له بالعطاء الإعلامي الذي قدمه مثلا كامل مروة (1915/1966)، أو علي أمين (1914/1976)، وغيرهما من أسماء عريقة في عالم الصحافة العربية، وعليها قس في كل مجال وميدان تضيع فيه «الأنا» بـ«الأخذ» عن مجال«كلنا» بـ«العطاء»، والخالدون عبر التاريخ هم رجال ونساء من النوع الثاني (العطاء)، من «هيباتيا» إلى «تيريزا»، ومن «حاتم الطائي» إلى«أبو القاسم الشابي»، فمهما اختلفت المجالات، فهي اتفقت على «عطاء الروح»، كلٌ في مجاله.
مات العجوز، وقد أوصى أن يدفن في مقبرة الدرب بمدينة التجارة وقوافل السفر بجوار عمه، بعيدا عن مكان ميلاده في قمة جبل (وادي الأمل)، فأخبره الأولاد، وهو بين الحياة والموت، أن المقبرة قديمة، وقد أغلقت، فلا مكان له فيها، فقال: ادفنوني إذن حيث شئتم. لقد استسلم في آخر لحظة من حياته لجغرافيا الموت، بعد أن عاش عمره الطويل متنقلا في جغرافيا الحياة من دولة إلى دولة ومن مدينة إلى مدينة، مرددا «من لا يستطيع تغيير جغرافيته لا يستطيع تغيير تاريخه».
كان العجوز يخشى على ابنه المادحين الذين يضخمون قفزته من رأس البئر كأنها شجاعة عنترة أو صولة الأسد، كان العجوز يخشى على ابنه المادحين الذين يضخمون صعوده إلى أعلى الجبل الصغير كأنه صعد الهيمالايا أو شرب القهوة أعلى إفرست.
كان العجوز يرتاح عندما يرى ابنه تائها حائرا باكيا، ليقول له: تلك دموع النساء العاجزات، استبدل تعويذة بها تعيدها على نفسك في كل تيه وحيرة تصادفك.. كرر يا ولدي: لا تحسبن المجد تمرا أنت آكله.. لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا.
كان الابن يسمع أمه العجوز تصيح عليه منذ خطواته الأولى: انتبه يا ولدي.. لا ترفع رأسك أبدا.. عينك على طريقك.. لا تسقط أو تتعثر، وانتبه على قدميك من شوك الطريق. وفي المقابل، يسمع والده العجوز يوصيه بثقة عالية: ابق مرفوع الرأس.. عينك معلقة بالسماء.. اعرف موقعك من الشمس نهارا، واحفظ موقع نجم الشمال، وتعرف على نجم الثريا، ولا تغفل عن نجمة سهيل، كي لا تضيع قافلة حياتك في صحراء الهوى والتيه. قاطع الابن والده العجوز، وحكى له وصية أمه بألا يرفع عينه عن الأرض، فتبسم العجوز، وقال: حياة أمك بين الجبال الشاهقة، تلتفت للسماء عند أوقات الصلاة فقط وعند النوم، استغراقا في الأحلام، فأبناء الجبال خوفي السقوط من شاهق لا يملكون رفاهية مشاة النظر للأعلى.. أمك عاشت طيلة عمرها بلا أفق.. الطريق المستوي في حياتها «الوادي» وسط الجبال. قاطعه ابنه مدافعا: لكن أمي تحكي ليّ عن قمم الجبال والسحاب من تحتها، فقال له العجوز بغضب: هذا يا ولدي ما جعلها تتوهم نفسها فوق الأرض، فعاشت حبيسة الجبال طيلة عمرها.. لولا مغامرتي الأولى بها، مسافرا خارج وادينا (وادي الأمل)، لكانت حبيسة أمل لا يتجاوز طموح الفلاحين والرعاة في موسم أمطار جيد، يروي أرضهم لمحاصيلهم وأغنامهم.
كان عجوزا مغامرا في شبابه، تثني على مغامراته، فيقول لك: اسكت لن «أخسر فشلي» بمديحك، ثم يسترسل في الحديث: مغامرتي التي قطعتني عن «وادي الأمل» طيلة عمري سببها أني يتيم، لا أب أو أم، سوى أختين وعم كريم، أخذنا ضمن أبنائه، وكان عمي ينادي عليّ، لأستريح من حرث الأرض بالثيران، ويسولف معي، فأقول له: يا عم ما الذي وراء جبالنا هذه؟، فيقول: جبال أخرى، فأقول له: وماذا بعدها؟، فيقول: بعدها جبال مثلها عن يمينها صحراء وعن يسارها ساحل وبحر حتى تصل إلى مكة، وإن عكست سيرك وصلت إلى صنعاء. يقول العجوز: فكنت أجمع في نفسي هذه المعلومات كخارطة طريق لسفري الذي أنويه بعيدا عن «وادي الأمل»، لكن أختي الصغرى كانت تجلس معي أحيانا، وتحدثني وهي تفلي رأسي من القمل والصيبان، وتقول: اصبر يا أخي.. كيف تسافر وتترك «وادي الأمل»، وجباله العزيزة على قلوبنا من أيام أمنا صالحة، وهي تغمس لنا الخبزة في السمن والعسل، وقد عقرنا الجدري فتركنا وقتلها، وهذا عمنا، أخو أبونا، يسافر لأقصى بلاد البحر، يستأجر الجِمَال، محملة بكل ما لذ وطاب، ويعود بها لوادينا (وادي الأمل). يقول العجوز: كنت أربت على كتف أختي الصغيرة اليتيمة، تعزيزا لها، وأنا أضمر السفر، بحثا عن حياة جديدة بعيدا عن «وادي الأمل» الذي لم أر فيه ما يسميه الناس «الأفق»، فعن يميني جبل وعن يساري جبل، وأعلى الجبال قد ترى أفقا يعطيك وهم السيطرة الكاذبة على العالم حولك.. صحيح أنك تعيش حياة الصقر في أعلى الجبل، لكنك ترتطم بحقيقة القرود تزاحمك المكان، متناسيا أن الصقر إذا ضاق بالمكان «ستل جناحه ثم حام... يرقى على متن الهوى....)، بينما البشر يعيشون أقدار المشي (ولا جناح لي واطير والأرض صارت لي مقر).
سافر الأب العجوز، وصنع مغامرته التي جعلت الابن لا يعرف «وادي الأمل» إلا زائرا، ومستذكرا حكايات الآباء والأجداد مع القمل والصيبان، وعلاج الأمراض بالحديد والنار كدواء شامل، لا يختلف فيه سوى مكان الكي من الجبهة والرقبة إلى أسفل القدمين.
بقي الابن مستذكرا وصية والده العجوز (لا تخسر فشلك، لا تخسر فشلك، لا تخسر فشلك)، محاولا فهم معناها العميق حتى صادف في الكتب عبارة أشد قسوة وعمقا من عبارة أبيه تقول: «عجبا لأولئك الذين ضيعوا أعمارهم في جمع مؤهلات النجاح.. لماذا لم يتجهوا للنجاح مباشرة؟!»، ليدرك متأخرا أن النجاح الحقيقي «عطاء»، والنجاح المزيف «أخذ»، ولهذا كان جمع مؤهلات النجاح ليس نجاحا حقيقيا، لأنه «أخذ»، بينما الاتجاه للنجاح مباشرة هو «عطاء» لا يعرف الحدود، فإن تأخذ «شهادة عليا في الإعلام، أو منصبا إعلاميا مرموقا في وزارة» لا علاقة له بالعطاء الإعلامي الذي قدمه مثلا كامل مروة (1915/1966)، أو علي أمين (1914/1976)، وغيرهما من أسماء عريقة في عالم الصحافة العربية، وعليها قس في كل مجال وميدان تضيع فيه «الأنا» بـ«الأخذ» عن مجال«كلنا» بـ«العطاء»، والخالدون عبر التاريخ هم رجال ونساء من النوع الثاني (العطاء)، من «هيباتيا» إلى «تيريزا»، ومن «حاتم الطائي» إلى«أبو القاسم الشابي»، فمهما اختلفت المجالات، فهي اتفقت على «عطاء الروح»، كلٌ في مجاله.
مات العجوز، وقد أوصى أن يدفن في مقبرة الدرب بمدينة التجارة وقوافل السفر بجوار عمه، بعيدا عن مكان ميلاده في قمة جبل (وادي الأمل)، فأخبره الأولاد، وهو بين الحياة والموت، أن المقبرة قديمة، وقد أغلقت، فلا مكان له فيها، فقال: ادفنوني إذن حيث شئتم. لقد استسلم في آخر لحظة من حياته لجغرافيا الموت، بعد أن عاش عمره الطويل متنقلا في جغرافيا الحياة من دولة إلى دولة ومن مدينة إلى مدينة، مرددا «من لا يستطيع تغيير جغرافيته لا يستطيع تغيير تاريخه».