لعلي ابتدئ في هذا المقال بمقولة للكاتب الأميركي البارع فرانك كلارك حول الجهل وأصحابه حين قال «إن السبب في انتشار الجهل أن من يملكونه متحمسون جدا لنشره». فعندما نتابع وسائل التواصل الاجتماعي بجميع أدواتها نجد أن من ينشط في التسويق والترويج للأفكار السطحية والأحلام الضبابية هم أناس متحمسون لنشر تفاهاتهم وسطحيتهم وسذاجتهم وترهاتهم، ويقومون بنشر أفكار أصحاب المصالح والمنتفعين منهم، وبذلك هم يعتقدون أنهم الأفضل والأجدر والأحسن والأبرع فيما يقدمون أو ينقلون، ويمكن وصف هذه الحالة التي يمرون بها كما ذكرها الكاتب والمفكر العراقي علي الوردي «كلما ازداد الإنسان غباوة ازداد يقيناً بأنه أفضل من غيره في كل شيء»، فالجهل علم قائم بحد ذاته وصناعته فن ووسيلة لكثير من المنظمات والشركات.
ولعل القارئ قد يستغرب كيف يستفاد من الجهل وانتشاره، وأن هناك بعض الشركات والمنظمات والهيئات الدولية والعالمية تعتمد نشر الجهل وصناعته بآليات وطرق مختلفة، فقد بدأ علم الجهل في التسعينيات من القرن الماضي، بعدما لاحظ أحد الباحثين في إعلانات شركات التبغ التي كانت تنتشر بشكل كبير خلال تلك الفترة، أنها تهدف إلى تجهيل الناس حول مخاطر التدخين، ففي إحدى الوثائق التي تم نشرها من أرشيف إحدى شركات التبغ الشهيرة في الولايات المتحدة، تبيّن أن أبرز إستراتيجية لنشر الجهل، كان عن طريق إثارة الشكوك في البحوث العلمية التي تربط التدخين بالسرطان. حينئذ، انطلق لوبي التبغ في أميركا لرعاية أبحاث علمية مزيّفة، هدفها تحسين صورة التبغ اجتماعياً، ونشر الجهل حول مخاطره! ليعيش الإنسان مرحلة الحيرة بين الآراء ويصبح التأثير أسهل عليه، وبالتالي أصبحت هذه الشركات تتخذ أسلوبين في عملية صناعة الجهل، الأولى عن طريقة إدارة الفهم والمعرفة من خلال الدراسات والأبحاث المزيفة التي تستهدف مجموعة لها تأثيرها على المجتمع، لأنها تعتمد في فهمها على الأرقام والإحصاء والجانب المنطقي، أما الأسلوب الآخر فهو صناعة الجهل من خلال تضخيم الجهال والتافهين، حيث إنهم لا يملكون التمييز بين ما هو مفيد أو ضار فيتبعهم عامة الناس لأن أهدافهم ليست توعوية أو تطويرية أو تنويرية أو تثقيفية أو علمية، بل إن الهدف هو تسويق لسلعة أو قضية أو فكرة ما من أجل شهرة أو بعض المال، فتكون ضحيته الجماهير.
الجهل اليوم أصبح صناعه ومُنتجاً، بحيث تقوم بعض الجهات والدول، من خلال صناعة الجهل، بكفاءة وفعالية بتجهيل وتضليل الجمهور والرأي العام، فالباحث ديفيد دانينغ، من جامعة كورنيل «يحذر من أن الإنترنت يساعد على نشر الجهل – وهو المكان الذي لدى الجميع فرصة ليكونوا خبراء، كما يقول، مما يجعلهم فريسة لمصالح قوية ترغب في النشر المتعمد للجهل.
ويضيف دانينغ أن بعض الأذكياء سوف يستفيدون من جميع المعلومات الآن بمجرد الدخول إلى الإنترنت، إلا أن كثيرين سوف يكونون ضحايا للتضليل والشعور الزائف بامتلاكهم الخبرة.
كما ذكر بروكتر أن الجهل له عدة أسباب للانتشار أولاً، كثير من الناس لا يدركون الحقيقة فتجدهم متحمسين للحديث عن أي موضوع، فالمهم لديهم هو أن يكونوا على تواصل مع الجماهير ويجنوا شيئا من المال، وثانيا، عندما تكون هناك جماعات المصالح الخاصة – مثل شركة تجارية أو جماعة سياسية فهذه الشركات ليس لها اهتمامات أخلاقية أو قيمية وإنما تنظر لمكاسبها الاقتصادية أو السياسية باستخدام مناهج معينة، وتقوم بالعمل الجاد لخلق التضليل حول أي قضية معينة وتشويه الحقائق وخلق الجهل المتعمد، فعلى سبيل المثال كانت هناك دوافع سياسية في إثارة الشكوك حول جنسية الرئيس الأميركي باراك أوباما من قبل المعارضين حتى كشف شهادة ولادته في عام 2011، فنحن نعيش في عالم من الجهل المتطرف، كما يقول بروكتور ومن باب المعجزة أن تسمع الحقيقة في وسط كل هذا الضجيج من الجهل، حتى لو كان الوصول للمعرفة متاحاً، فذلك لا يعني أنه تم الوصول إليها بالفعل».
لذا علينا في هذا الوقت أن نبرع في إدارة الفهم نحو المعرفة وألا نجعل الجهل وناقليه يشوهون الحقائق.