عندما وصلت إلى الصين للمرة الأولى، كانت خريطة المدينة لا تكاد تفارق يدي، أفتش عن الجامعة التي سأدرس فيها، حددت فيها الفندق الذي أقيم فيه، وألتمس خلالها الطريق لإنجاز مهامي، إلا أني رغم ذلك كنت كثيرا ما أحتاج إلى السؤال عن شارع أو أقرب محطة مترو.
أول شخص سألته أتذكر تماما كيف تشنج، شعرت وكأني أعطيته حقنة تسببت له في الشلل الكامل، توقف أمامي وهو ينظر إلى الأمام، لم يلتفت إليّ حتى شعرت أنه تحول إلى صنم، ثم بارتباك شديد وانحناءة برأسه إلى الأسفل قال لي: «أنا آسف لا أستطيع أن أتحدث الإنجليزية».
سألت فتاة أخرى، فوجئت بأنها وضعت يدها على صدرها من شدة الخوف، وتنفست بعمق، ثم قالت: أقرب محطة مترو هناك وهربت وسط الزحام.. أشعرتني بأنني مجرم يهددها بالسلاح.
في الحقيقة، تضايقت كثيرا من كل هذه العزلة التي يعيشها الشاب الصيني مع نفسه، تجدهم يمشون جماعات، ولكن كل شخص مستقل بنفسه، وحيد بأنانية بشعة، شخصيات منعزلة على نفسها تماما، ولكن لو رجعنا إلى الوراء قليلا كمحاولة لتفسير هذه التصرفات غير الطبيعية، سنجد أن سببها الرئيس يبدأ من سياسة الطفل الواحد التي فرضتها الحكومة الصينية على شعبها قبل 40 سنة، والتي خلّفت جيلا كاملا، يعيش وحيدا دون أشقاء يشاركونه حياته، جيلا مدللا طلباته تعد بمثابة الأوامر، وعلى والديه أن ينفذاها فورا.
الأمر الآخر، يعيش طول يومه وحيدا، لا يتحدث سوى مع والدته أو جدته التي تدلله من الصباح الباكر، توفر له كل احتياجاته، ولا ترفض له طلبا، ينشأ غير معتاد على الحديث مع أقرانه، ومع الغرباء، لا يخرج من المنزل برفقة أصدقائه الصغار، ينحصر في عالمه الصغير داخل المنزل، في الوقت الذي يجب عليه أن يتعلم كل شيء في الخارج.
عندما تخيلت شخصا يعيش في بيئة مثل هذه، فإني ألتمس له العذر في ارتباكه عندما يفاجئه شخص أجنبي -وبلغة غريبة- في الشارع بسؤال عن محطة مترو، لأنه لم يعتد على أن يلتقي شقيقا في منزله يشاركه حياته، لم يعتد أن تكون لديه خالات وأبناء خالات وأبناء عّم، لأن والده وحيد وأمه وحيدة وهو أيضا وحيد.
كان هدف الحكومة الصينية من قرار سياسية الطفل الواحد، هو ألا يزيد عدد السكان عن معدل النمو المتوقع لاقتصادها، ولتحدّ من الفقر، ونجحت في أن قلصت نمو سكانها بعدد أقل من 400 مليون نسمة في حالة لو أنها لم تتخذ سياسة الطفل الواحد.
ولكن هذه السياسة خلّفت كثيرا من الآثار السلبية، أدت إلى 300 مليون عملية إجهاض، ورغم أن القانون الصيني يمنع الأطباء والمختبرات من تحديد جنس الجنين قبل الولادة، إلا أن كثيرا من الآباء يحرصون على إجراء فحوص تحديد النسل قبل الولادة، وذلك بهدف إجهاض الحمل في حالة كان الجنين أنثى، مفضلين الذكور على الإناث.
العائلات الغنية ذهبت لإجراء كثير من الإجراءات الطبية لإنجاب التوائم، وذلك لأن القانون يسمح بإنجاب التوائم، ويمكن الحصول على التوائم طبيا، ولكن لتكلفتها العالية لا يقدم عليها سوى الذين لديهم القدرة المادية الجيدة.
أصبح الفارق كبيرا بين أعداد كبار السن والجيل الشاب، وحدث نقص في عدد العمالة، وزيادة في عدد المتقاعدين.
سمح القانون الصيني قبل 4 سنوات تقريبا بإنجاب الابن الثاني، شرط أن يكون الأب أو الأم دون أشقاء، وخلال السنوات الماضية زاد عدد السكان بشكل نسبي يسهم في حل المشكلات التي خلّفتها سياسية الابن الواحد.
والسؤال هنا: هل قانون تحديد النسل الذي يحدده البشر يحقق العدالة للمجتمع والتوازن، أم إنه يخل بتركيبة المجتمع من عدة نواح، ليس من أهمها أن عدد الذكور في الصين يتجاوز عدد الإناث بـ43 مليون نسمة.
خلل كبير خلّفه هذا التدخل البشري، وقد يكون الأمر أفضل بكثير لو ترك الأمر دون تحديد، ودون فرض قانون تحديد النسل، على الأقل لن نجد 43 مليون شاب صيني دون فتاة صينية يستطيع الزواج منها.