وجدت بحكم اهتمامي واختصاصي بالرأي العام وقياسه وسبل التعبير عنه، سواء خلال وسائل التواصل الاجتماعي، أو وسائل الإعلام التقليدية -إن صح التعبير- في وقتنا الراهن، أن قوة تأثير هذه الوسائل على التحكم في العقول والاتجاهات، وقدرتها على صناعة الرأي العام العالمي لبعض القضايا، وطريقة تدويلها وجعلها محطة أنظار العالم، قوةٌ لا يمكن أن يستهان فيها أو يقلل من قيمتها، فبإمكان هذه الوسائل أن تتلقف أي تغريدة من شخصية عامة أو مسؤولة، تكون بمثابة خاطرة أو رأي عابر لموضوع معين، أو قضية معينة، أو حادث، أيّا كانت حدوده الجغرافية، ومدى تأثيره السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، فيصنع ويخلق منها سيناريوهات تجيش من أجلها المراسلين ومحللي الرأي.

وتتسابق وكالات الأنباء للحصول على تصريحات من مسؤولين أو صناع قرار لمواكبة الحدث، وبغض النظر عن مستوى الحدث أو القضية وتبعاتها، فالمهم لدى هذه الوسائل هي هستيريا التصعيد، وتبني القضية والحدث من أشخاص أو مسؤولين أو منظمات، لخلق رأي عام يتفق معها في التوجه.

فقد بينت إليزابيث نوبل – نيومان صاحبة نظرية دوامة الصمت، والتي تتحدث في فحواها أن وسائل الإعلام حين تتبنى آراء أو اتجاهات معينة، خلال فترة من الزمن، يشعر معظم الناس بالخوف من العزلة الاجتماعية، لذلك يلاحظ الناس باستمرار سلوك الآخرين لمعرفة الآراء والسلوكيات التي تُقابل بالموافقة أو الرفض في المجال العام أو أي مجال آخر.

وبالتالي، يمارس الناس ووسائل الإعلام «ضغط العزلة» على أشخاص آخرين، فالانفعالات التحريضية المختلفة التي تخضع لها الجماهير من وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، يمكنها أن تكون ذات مغزى مسالم، أو تسهم في قرع طبول الحرب، وذلك بحسب نوعية هذه المحرضات.

ولكنها ستكون دائما قوية ومهيمنة على نفوس الجماهير واتجاهاتهم.

وبما أن المؤثرات من وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي قادرة على تهييج الجماهير والرأي العام، وبالتالي نجد هذه الجماهير تنقاد لها دائما، وتنتقل في لحظة واحدة من مرحلة الضراوة الأكثر دموية إلى مرحلة البطولة المطلقة. فالجمهور يمكنه بسهولة أن يصبح جلادا، ولكن يمكنه بالسهولة نفسها أن يصبح ضحية وشهيدا، وهذا ما ذكره جوستوفا لبون في دراسة لعقلية الجماهير التي تتأثر في شكل هستيريا بالمحرضات الإعلامية للقضايا العامة في المجتمع.

وبما أن الجماهير تميل إلى إخفاء رأيهم عندما يعتقدون أنهم سيعرضون أنفسهم «لضغط العزلة» مع رأيهم. في المقابل، يميل الأشخاص الذين يشعرون بالدعم الشعبي إلى التعبير عن رأيهم بصوت عال أمام الجماهير الذين يؤمنون بهم، وتجدهم يتبنون قضايا إنسانية في ظاهرها، وسياسة في باطنها، واقتصادية في وسطها، خاصة تلك التي تتبناها وسائل الإعلام حتى يكونوا هم أنفسهم في دائرة الأضواء والمؤثرين في المشهد وحديث الساعة، وهذا ما نجده جليّا في القضايا العابرة للقارات أو الأزمات، خاصة تلك التي يتحدث بها الساسة في حملاتهم الانتخابية، أو تلك التي يستخدمها الساسة ليحاولوا أن يصرفوا انتباه جماهيرهم عن قضايا أهم لمجتمعاتهم، وعادة ما يتم إشعال هذه العملية خلال قضايا محملة عاطفيا وأخلاقيا.

وقد تصور وسائل الإعلام أيضا رأي الأقلية في الواقع كغالبية إذا كان مناصروهم يتصرفون بشكل قوي بما فيه الكفاية، ويدافعون علانية عن رأيهم، ويكون لوسائل الإعلام تأثير حاسم في تكوين الرأي العام، خاصة إذا كانت وسائل الإعلام تتسم بآليات، منها أولا: التراكمية: وتتمثل في التأثير التراكمي خلال التكرار في جميع نشراتها وتغطياتها وضيوفها واستطلاعاتها، إذ تميل وسائل الإعلام إلى تقديم رسائل متشابهة ومتكررة، حول موضوعات أو شخصيات أو قضايا، ويؤدي هذا العرض التراكمي إلى تأثيرات على المتلقين على المدى البعيد، خلال رسم صوره ذهنية كنتيجة للتعرض الهائل للرسائل الإعلامية.

ثانيا: الشمولية: من ناحية السيطرة على الإنسان ومحاصرته، والهيمنة على بيئة المعلومات المتاحة، مما تنتج عنه تأثيرات شاملة على الفرد يصعب الهرب من رسائلها.

ثالثا: التجانس: وهو توافق الأفكار التي تقوم وسائل الإعلام ببثها وعرضها على جمهور المتلقين، مما يعني وجود اتفاق وانسجام بين القائمين بالاتصال مع المؤسسات التي ينتمون إليها، مما يؤدي إلى تشابه توجهاتهم والقيم الإعلامية التي تحكمهم، وعليه تكون الرسائل التي تعمل وسائل الإعلام المختلفة على بثها، تبدو متشابهة ومتسقة مع بعضها بعضا مما يزيد من قوة تأثيرها على جمهور المتلقين.

وتؤدي هذه العوامل السابقة مجتمعة إلى تقليل فرصة الفرد المتلقي في أن يكون له رأي مستقل حول القضايا التي يتم طرحها أو نقاشها، لأن هدف وسائل الإعلام هو إعادة برمجة التفكير المنطقي إلى التفكير الموجه، ولعل كتاب «المتلاعبون بالعقول» لهربرت شيلر، يطرح أمثلة كثيرة في هذا السياق، أن الرأي العام محدود في الزمان والمكان، فالقضايا المؤثرة قديمة يختلف تفسيرها في وقتنا الراهن من ناحية التأثير، فأينما تعيش الجماهير سوية في المجتمعات.

تعمل وسائل الإعلام بسيطرة على الرأي العام، وأن ما يوافق عليه الرأي العام أو يرفضه -على وجه التحديد- سيتغير بمرور الوقت، ويختلف من مكان إلى آخر.