هل المثقف في وطننا العربي يَعدُّ نفسه الجامعة الفكرية التي لا بد للجماهير أن تنهل منها؟ وأنه صاحب المشرط الطبي الذي يستطيع أن يشخص المرض المجتمعي للواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي؟ وأن يطرح وصفاته الطبية المجربة بشكل تاريخي؟ وأنه الحاكم المنطقي على قبول الموروثات والقصص والتاريخ وإسقاطها على الواقع المعاصر؟.
أم هو ذلك الشخص الذي انكفأ على نفسه وبقي حائرا بين أفكاره وأطروحاته وبين كيفية بناء الجسور التي خلاله تصل تلك الآراء والأفكار إلى مجتمعه؟!
في اعتقادي، أنّ الذي لا مِرْيَةَ فيه، أن واقع المثقفين في عالمنا العربي اليوم، غير واضح من ناحية المفهوم، ومشوّش من ناحية الممارسة، وبالتالي نجد أنفسنا متوقفين عند هذا المفهوم.
فبحسب بعض التعريفات التي تبين مفهوم المثقف، يتضح أنه اسم يطلق على الشخص الذي يستخدم الذكاء والتفكير النقدي لحل مشكلات مجتمعه، وتنميته، فهو واع بشكل كبير بمشكلات مجتمعه، ودولته ويحاول جاهدا أن يبتكر أفكارا وحلولا لمشكلات مجتمعه بشكل عام، وفي محصلته قدر كبير من الثقافة والمعرفة في كثير من التخصصات والمجالات، وله القدرة على الربط والاستنتاج والاستشراف فهم يعدّون من نخبة المجتمع وصفوته.
أما على مستوى الممارسة الفعلية، وهو ما يهمنا في هذا الطرح، فإن بعض المثقفين حائر خاصة في وقتنا الحاضر، وعلى مفترق طرق بين الانكفاء على الذات والتقوقع بين مفردات الكتب وصفحات التاريخ، والأبيات الخالدة والتغريدات التي ينحت فيها صور الماضي دون ربطها بالحاضر، وكأنه يقدم مسلسلا تاريخيا لأبي العتاهية أو ملحمة أسطورية في أقصى الشرق لقبائل الساموراي، ويتوقف الأمر عند ذلك الحد دون الشخوص إلى أعماق واقع المجتمع الذي يعيش فيه، على الرغم من المقومات والأدوات التي يمتلكها لمخاطبة الجماهير، وأن يكون الحلقة بين العامة والنخبة السياسية من جانب، ومحفزا للتطور من جانب آخر، فهو مهندس للرأي العام وعالم بطبيعة المجتمع وتحولاته الفكرية وأساليب التغير الاجتماعي والفكري، فحسبما ذكره الكاتب عبدالإله بلقزيز من أن المثقف مرتبط بعدة علاقات مع المجتمع، منها على سبيل المثال للحصر علاقة الانتماء، فالمثقفون يعدّون من نسيج المجتمع، «شأنهم في ذلك شأن أيِّ فئة أخرى. ينحدرون، في أصولهم الاجتماعية، والطبقية وبالتالي فإن المجتمع وطرق تفكيره وما يؤثر عليه ليست بغريبة عليهم، فهم يشتركون مع المجموع الاجتماعي في منظومة القيم العامة، والتي تشكل شخصياتهم وهوياتهم الوطنية»، أيضا هناك علاقة المشاركة في النظام الاجتماعي، والنظام الوظيفي فالمثقفون، مثل سائر المواطنين، يشاركون في مؤسسات اجتماعية ووظيفية مختلفة
-انتماءً إليها وفعاليةً فيها- لذا فإن مواقعهم المهنية تجعلهم أكثر دراية وأكثر عمقا لاستكشاف الخلل، إن وجد، ووضع الحلول التي تتناسب مع البيئة ومع التطور الذي يعدّ إحدى سمات المثقفين، لأنهم هم من يقودون دفة التفكير وإستراتيجية الوصول إلى الأهداف العظيمة، وعلى الرغم من وجود هذه الأدوات، إلا أن لغة المثقفين أصبحت صعبة للجماهير، فهم يحدثون الناس بما لا يعرفون، وكان الأجدر بهم كما قال علي بن أبي طالب «حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ..»، ومثله قول ابن مسعود «ما أنت محدثا قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة».
فتبسيط الطرح هو أسلوب المحفزين وطريق الإقناع للجماهير أيضا من الأمور الأخرى التي وقع فيها بعض المثقفين نظرتهم إلى أنفسهم، وأن الشريحة التي لا بد أن يخاطبوها هي الصفوة وصناع القرار، وبالتالي لا بد من استخدام منهجية معينة في ذلك، وهو أمر سيجعل المثقف بعد برهة من الزمن منكفئا على نفسه لا محالة.
وأخيرا، إن المثقف الذي يريد مخاطبة المجتمع، ويصنع مشروعا فكريا خالدا، ويطرح أفكاره، لا بد أن يبدأ من بوابة الجماهير.