من الأوهام التي ما تزال تعشش في عقول كثيرين من مسؤولي التعليم الجامعي في البلدان العربية، أن التعليم باللغة الأجنبية له علاقة مباشرة بالمستوى التعليمي، وأن تعريب التعليم في المرحلة الجامعية سيؤدي إلى انخفاض مستوى الطالب العلمي.

ونحب أن نهدئ من روع هؤلاء القوم الذين يمسكون بزمام الأمور في الجامعات العربية، ونؤكد لهم أنه لا علاقة وظيفية للتعريب بالمستوى التعليمي، فالتعريب شيء والمستوى التعليمي شيء آخر، والرابطة بينهما ليست سببية. وبالإمكان تعريب التعليم الجامعي دون المساس بالمستوى التعليمي.

التعريب لا يعني الانعزال عن العالم والتقوقع والانغلاق، فهناك دول متقدمة حضاريا ومتفتحة ثقافيا مثل اليابان والسويد والدنمارك وهولندا وألمانيا وكوريا، ولم يؤثر تدريسها باللغة القومية على مستوى انفتاحها على الآخر، أو يؤثر على مستوى التعليم لديهم.

إن الجامعة التي لا تعتمد اللغة الأم في التدريس في شتى المراحل، تزرع في أبنائها الإحساس بالتبعية والدونية، الأمر الذي يفقدهم الشعور بالانتماء إلى أمتهم ويفقدهم الشعور بالعزة والفخر بهذا الانتماء.

فاللغة القومية هي ذاكرة الأمة وتاريخها وتراثها وثقافتها وهويتها، وإذا تخلت عنها فقدت الأمة ثقافتها وتاريخها وذاكرتها وتراثها وهويتها.

اللغة هي حاضنة الثقافة، وتعريب التعليم في جميع مراحله وتخصصاته نابع من إرادة جماهير الأمة، ويعكس طموحاتها وآمالها في الانعتاق من التقليد والتبعية، ويسهم بدور كبير في القضاء على التبعية الثقافية التي لا تزال الأقطار العربية تعانيها.

هذه التبعية الثقافية كرست وما تزال تكرس في نفوس أبناء الأمة قصورهم عن الإبداع والابتكار، مما أدى إلى شبه قناعة لدى المواطن العربي بأنه دون غيره من أبناء الأمم الأخرى، وربما استقر في ذهنه أنه لا يمكن أن يكون مبدعا وعليه أن يظل مستهلكا.

لم يسجل التاريخ أن أمة نهضت دون لغتها، ولو عدنا إلى الوراء لتقييم عملية التعريب عند العرب القدماء، لوجدناها نجحت نجاحا باهرا، وزودت اللغة العربية ما احتاجت إليه من الألفاظ والمصطلحات، وقد استوعب العرب القدماء هذا الأمر وهضموه، فأصبحت لغتهم بذلك لغة العلم والحضارة في العالم أجمع.

إن من أهم أسباب نجاح التعريب في ذاك الوقت، اعتزاز العرب بلغتهم التي هي لغة القرآن الكريم، فأيقنوا أن الحفاظ عليها والعمل على تطويرها ونشرها أمر مهم وضروري. إضافة إلى ذلك، فقد توافر للعلماء كل وسائل التعريب، فتوافرت لهم المادة العلمية من الكتب والمخطوطات التي حرص الخلفاء على توفيرها، وأغدقوا الأموال الطائلة لتحقيق هذه الغاية، ونتج عن ذلك إقبال العلماء والأطباء والفلاسفة والمترجمين على العمل في هذا المجال، للإسهام في تنمية اللغة العربية حتى صارت اللغة العلمية الأولى، ولا أحد يشكك في ذلك.

والعرب القدماء كان عليهم التزام ديني وقومي للمحافظة على لغتهم من جهتين: فمن جهة اللغة العربية هي لغتهم الأم وهي ذاكرتهم وتاريخهم وهويتهم.

ومن جهة أخرى، العربية لغة كتابهم السماوي، وحفاظهم على لغتهم يمثل عندهم جانبا تعبديا حتى لا يفقدوا الرابطة اللغوية التي تربطهم بالقرآن الكريم.

لا شك لدينا أن موقف العرب القدماء من التعريب واللغة العربية أكثر إيجابية من موقف العرب المعاصرين، ويبدو أن البناء الشامخ الذي بناه اللغويون العرب في الماضي يتعرض الآن للهدم، بسبب جيل جديد يعاني مرض الاستهلاك لكل نظرية تأتي من وراء المحيطات.

«ومن مأمنه يؤتى الحذر»، تحولت بعض أقسام اللغة العربية وآدابها في الجامعات العربية إلى مراكز تسويق للنظريات الغربية، سواء كانت نظرية ميتة أو نظرية تعاني الاحتضار، وانشغلنا مع اللغويين العرب في تفسير البنيوية والسلوكية والتفكيكية والتوليدية، وأخيرا وليس آخرا التداولية، ومن المضحكات المبكيات أن تعريب مصطلح «linguistics» ما يزال موضع أخذ ورد، فلم يستقر اللغويون العرب على ترجمة نهائية لهذا المصطلح، فهو تارة اللغويات، وأخرى اللسانيات، وثالثة علم الألسنة، وهناك من يقول إنه علم اللغة، ومَن يقول إنه علم اللغة الحديث.

وغرائب اللغويين العرب الجدد لا تنتهي، فهم اليوم يريدون أن يستبدلوا نحو اللغة العربية بالنحو التوليدي للغوي الأميركي نعوم تشومسكي.

وتشومسكي قصة لوحده، فقد حصل تشومسكي على دعاية هائلة في الجامعات العربية وبين الطلبة العرب لم يحصل على مثيلها في بلده، وصار له أتباع ومؤيدون يفدونه بالروح والدم، وكل هذا بفضل بعض منسوبي أقسام اللغة العربية وآدابها في الجامعات العربية.

واللهجات المحلية أصبحت تزاحم اللغة العربية الفصحى في الجامعات العربية، فاللهجات اليوم تحظى بالدراسة والعناية، ولها نصيبها من البعثات، ولا تسألني عند الفائدة المرجوة من دراسة اللهجات المحلية وابتعاث الطلاب لدراستها، فاللهجات المحلية اليوم تهديد جديد يضاف إلى تهديد اللغات الأجنبية.

وصدّقْ أو لا تُصدّقْ، عاد اللغويون العرب إلى عصر ما قبل الاحتجاج، فهم اليوم في جدل مستمر حول تحديد اللفظ الفصيح واللفظ المولّد، وصار لسيبويه خصوم وأعداء داخل أروقة أقسام اللغة العربية، وبفضل من الله وتيسيره دخل اللغويون العرب علم تشريح الدماغ والأعصاب من أوسع أبوابه، وصاروا يدرسون الجوانب الجمالية والبلاغية لقصيدة جميلة للشاعر الأندلسي ابن خفاجة عن طريق علم اللغة الإدراكي، وبما أن الحديث اليوم عن تعريب التعليم الجامعي، فإن تعريب مصطلح «cognitive linguistics» ما يزال مثار جدل هو الآخر، فهناك من يقول إنه علم اللغة الإدراكي، ومَن يقول إنه علم اللغة العرفاني أو العرفني أو المعرفي.

إذا كان هذا ما يحدث فعلا في بعض أقسام اللغة العربية وآدابها، فما بالك بأقسام الطب والهندسة التي لا تعترف إطلاقا باللغة العربية «عدا كليات الطب في سورية»، مما يضع على عاتق المسؤولين عن التدريس الجامعي مسؤولية كبيرة بوضع خطة إستراتيجية لإحلال العربية محل اللغات الأجنبية، واضعين الأسئلة التالية نصب أعينهم: كيف تجعل اللغة العربية لغة التدريس في الجامعات والمعاهد العليا بتخصصاتها المختلفة؟ ما الخطوات الواجب اتباعها لرفع مستوى تعليم اللغة العربية في مراحل التعليم المختلفة؟

ما الأبحاث التي ينبغي إجراؤها لتحسين أساليب تدريس اللغة العربية؟

هذه الأسئلة وأمثالها ينبغي أن نعمل جميعا للحصول على إجابات عملية مقنعة لها، ويجب أن تتضافر الجهود لحل المشكلات التي تعترض سبيلها.