كان من أهم عوامل الجذب الصناعي في الصين انخفاض تكلفة الإنتاج الصناعي على أراضيها، فهي تملك قوة بشرية هائلة وذات أجور تعتبر الأرخص على مستوى العالم، عندما ينتقل مصنع من الولايات المتحدة الأميركية إلى الصين فإن ذلك يعني انخفاض تكلفة الأيدي العاملة وبالتالي خفض تكاليف الإنتاج وزيادة الأرباح، وكان هذا العامل هو نقطة القوة التي جعلت من الصين الأرض الخصبة للشركات العالمية التي تجتهد لخفض تكاليف منتجاتها وزيادة الأرباح.
رأينا أكبر الشركات الأميركية والأوروبية لصناعة السيارات والإلكترونيات وغيرها من الصناعات الهامة وهي تنتقل إلى الأراضي الصينية، حققت خلال السنوات الماضية أعلى الأرباح وأقل التكاليف، وعلى أكتافها انتعش الاقتصاد الصيني وزاد دخل العامل الصيني بالتدريج، حتى وصل الآن إلى أعلى رقم حققه الفرد الصيني على مدى التاريخ، وانتقلت الصين من الفقر المدقع والجوع القاتل إلى الرفاهية والأمان الاقتصادي والمهني، وأصبحت الصين ثاني أقوى اقتصاد عالمي، وصاحبة أكبر احتياطي نقدي عالمي، وأكبر جيش من ناحية عدد الأفراد، وأكبر بلد مصدر في العالم.
ولكن كانت الضريبة الكبرى لكل هذه الإنجازات هو التلوث البيئي، عند زيارتي الأولى لبكين في عام 2014، لم أشاهد الشمس لمدة ثلاثة أيام، كانت هناك طبقة كثيفة سوداء في سماء بكين تحجب الشمس، وكنت أشاهد الطلاب والرجال والنساء يسيرون في الشوارع في الصباح الباكر وهم يرتدون الأقنعة الواقية من التلوث، وكان متوسط تركيز الجسيمات المجهرية (بي.إم 2.5) أكثر من 500 ميكروجرام في المتر المكعب في بكين، أي أكثر 50 مرة عن توصيات منظمة الصحة العالمية، وكان الطقس حقا كئيبا وسيئا للغاية، أعلنت خلالها إلغاء مئات من الرحلات الجوية وأغلقت طرق سريعة وارتبكت الحركة المرورية، وكانت الحكومة في ورطة حقيقة وتعمل بكل طاقتها لعلاج مشكلة التلوث البيئي مهما كانت التحديات والخسائر وبالفعل، ومن هنا بدأت المزيد من القيود توضع ضد المصانع، وصرح أحد أكبر القضاة بأنه سيتم توسيع محاكم مخالفات التلوث البيئي والجرائم البيئية، وأقر البرلمان الصيني قانونا يفرض لأول مرة على الصناعة ضرائب لحماية البيئة، وذلك اعتبارا من بداية هذا العام بواقع 1.2 يوان (0.17 دولار) لكل وحدة من ملوثات الجو، و1.4 يوان لكل وحدة من ملوثات المياه، وخمسة يوانات لكل طن من مخلفات الفحم، وألف يوان لكل طن من «المخلفات الخطيرة»، كما ستفرض الصين رسوما على التلوث الضوضائي الناجم عن المصانع بواقع 350 يوانا شهريا إذا تجاوز الحد المسموح به بما بين 1 إلى 3 ديسيبل، و700 يوان لما بين 4 و6 ديسيبل، و11200 يوان شهريا لزيادة بواقع 16 ديسيبل، أو أكثر عن الحد المسموح به، هذا القانون جعل المصانع الصينية تتعطل بشكل مؤقت أو بشكل دائم وجعلها في ورطة حقيقية إذ أصبحت القيود تكبلها بعد أن كانت تملك الحرية المطلقة خلال العقود الماضية.
قبل 6 أشهر حضرت اجتماعا في أحد المدن الصينية ما بين رجل أعمال صيني متخصص في صناعة البلاستيك وإعادة تدويرها، ورجل أعمال سعودي، كان هدف الاجتماع هو نقل مصنع رجل الأعمال الصيني من الأراضي الصينية إلى السعودية، وبالفعل تم نقل المصنع وهو الآن في جازان يعمل دون قيود كما كانت الصين قبل عام 2018، رجل الأعمال الصيني يشعر بالسعادة لأنه استطاع أن ينقل مصنعه إلى جازان ليعمل بأقل التكاليف، وأشعر أنا بالخطر القادم، الذي أتمنى أن تنتبه له الجهات المعنية بحماية البيئة مبكرا، قبل أن نستيقظ يوما ما ونرى سماء مدننا تكسوها طبقة سوداء كئيبة، والنَّاس يسيرون مرتدين أقنعة الوقاية من التلوث البيئي، كما رأيت قبل 4 سنوات في بكين.