الدولة الناشئة والتي تنطلق انطلاقة الصاروخ نحو التقدم والتطور والاستدامة التطويرية في شتى المجالات لم تنطلق بخط مستقيم، بل كان هذا الخط مليئا بالمنحنيات والعوائق والعقبات والإحباطات، فقد عانت هذه الدول وصمدت وتجاوزت تلك المحن لتحقق أحلامها وطموحاتها، فدول كشرق آسيا أكبر برهان على مثل ذلك، فهذه الدول واجهت الكثير من العقبات للوصول إلى مبتغاها وأهدافها.
ولعلي في هذا المقال لن أقوم بسرد جميع تلك العقبات التي واجهت هذه الدول، وإنما سنتناول القضية الأبرز والتي تعتبر من أهم العقبات لأي دولة سواء أكانت متقدمة كالولايات المتحدة الأميركية أو بريطانيا أو في دول فقيرة كبعض الدول الإفريقية أو غيرها، هذه المشكلة هي مشكلة البطالة وكيفية القضاء عليها أو التقليل منها والحد من نتائجها السلبية التي تنعكس على المجتمع واستقراره، فهي حسب بعض الإحصاءات والدراسات العالمية من أهم مسببات الجريمة بتفرعاتها وأنواعها. وهي سبب لتخلف الدول أيضا، وبما أن لغة الأرقام هي اللغة التي تستطيع تحليل الواقع وبالتالي ضبط مؤشرات الإنجاز وتحقيق الأهداف المنشودة، فقد بينت نشرة للهيئة العامة للإحصاء السعودي (GaStat) أن معدل البطالة لإجمالي السكان السعوديين (15 سنة فأكثر) من واقع تقديرات مسح القوى العاملة خلال الربع الثاني 2017م بلغ (12.8%)، بواقع (7.4%) للذكور (33.1%) للإناث، ومعدل البطالة في المملكة لإجمالي السكان (15 سنة فأكثر) (6.0%) بواقع (3.3%) للذكور، و(22.9%) للإناث.
وبالتالي ومن خلال هذه الأرقام لا بد من وضع خطط لخفض معدلات البطالة إلى أقل المستويات، ففي ظل التغيرات التي تحصل حاليا على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والاعتراف المصاحب بالمشاكل التي نواجهها، وحجم تلك المشاكل وما يترتب عليها، كان لا بد من النظر إلى الحلول أياً كان مصدرها، فالدول المتطورة تعالج المشاكل وتستقطب الخبراء، فقد قدم الدكتور ماكيو يامادا وهو الباحث في مؤسسة الملك فيصل الخيرية ورقة علمية في اعتقادي أنها جديرة بالطرح والمناقشة، لأنها تلامس احتياجا حقيقيا لدى مجتمعنا وتتقاطع مع رؤية المملكة 2030 في خفض معدل البطالة، حيث كان عنوان الورقة كيف أصبحت نسبة البطالة في المجتمع الياباني 1%، فقد بين الباحث فيها أن اليابان دولة كانت تعاني من التقدم البطيء فيما يخص تنويع اقتصادها بعيداً عن قطاع الزراعة. فبالرغم من تحديث الدولة السريع بعد عام 1868، إلا أنها بقيت تعاني من مشكلة عدم تطابق المهارات بين مناهج التعليم ومتطلبات الصناعة على مدار النصف الأول من القرن العشرين، مع تواجد نسبة متزايدة من مخرجات التعليم في المجتمع بدون عمل، وبقيت بطالة الشباب المشكلة الاقتصادية الرئيسية.
ولكن بعد عدة عقود، نجحت الدولة في تطوير القوى العاملة المنتجة من خلال الاستفادة من ديموغرافياتها التي شهدت «تضخما في الشباب»، ومعها بنيت الصناعات التنافسية الموجهة للتصدير. وقد حققت الدولة نسبة بطالة 1% لسنوات متتالية، حيث إن الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد في اليابان ازداد عما يقارب عشرة أضعاف خلال 16 سنة بين 1960 و1975. وذكرت ورقة العمل أن هناك ثلاثة عناصر للنجاح في تمهيد التحول، والتي قد تعطي رؤى مفيدة لصناع السياسات في الاقتصادات الناشئة اليوم التي تواجه مشكلة البطالة. هذه العناصر كانت السبب في تخفيض نسبة البطالة في اليابان وهي:
أولاً، بناء النظام الذي حقق تطابق «التوقعات». فقد شكلت الحكومة الحلقة المؤسسية بين المدارس والشركات الخاصة من خلال «مكاتب لاستقرار الوظيفة»، وزودت هذه الحلقة المؤسسية الباحثين عن العمل من الشباب بالمعارف حول الطلب القائم على الموارد البشرية، ولذلك ساعدتهم في تعديل توقعاتهم حول العمل وفقاً لمتطلبات سوق العمل، في حين أنها مكّنت الشركات الخاصة أيضاً، لا سيما الشركات الصغيرة والمتوسطة، من تجنيد القوى العاملة في كل أنحاء الدولة.
ثانياً، قامت الشركات الخاصة بتزويد المعرفة والمهارات الخاصة بالعمل من خلال إعداد البرامج التدريبية لموظفيها. ومن جهة أخرى، فإن الدعم المالي من الحكومة للشركات الخاصة بالتدريب خفف بشكل فعال من مخاوف هذه الشركات، لا سيماً الشركات الصغيرة والمتوسطة، التي كانت مترددة في الاستثمار في التدريب بسبب خوفها من عدم قدرتها على استرداد تكاليف التدريب. ثالثاً، على الرغم من أن قطاع التعليم لم يكن قادرا بشكل كاف على مكافحة مشكلة عدم تطابق المهارات، إلا أنه ساهم في «إمكانية تدريب الشباب» في المدارس. خصوصاً، صب التركيز على فكرة «كوو» الكونفوشيوسية، أو مكافأة الوالدين، أخلاقيات العمل ولا سيما فضيلة الاجتهاد – الاعتقاد أن العمل الجاد جيد في حد ذاته – في التلاميذ. خلق هذا النوع من التعليم القوى العاملة الجاهزة للعمل المنتج، على الرغم من أن استغلال إمكانياتها احتاج إلى المؤسسات الاقتصادية التي زودتها بنظام الحوافز.
هذه الورقة وما تم طرحه فيها من أفكار في اعتقادي ما يحتاجه المختصون في وزارة العمل ووزارة التجارة، من خلال الاعتكاف على مثل هذه التجارب والدارسات، فنحن في وقت لا نحتاج أن نخترع العجلة من جديد بل أن نبني على هذه العجلة قطارا يسابق سرعة الصوت فليس هناك عمل مستحيل. المستحيل ألا نفكر بعمل، فتوطين مثل هذه الأفكار والتجارب ومحاولة مواءمتها لمجتمعنا، وتطويرها هو الهدف الذي نسعى لتحقيقه ضمن رؤية المملكة التي ستتم فيها معالجة البطالة، فتدريب وتطابق المخرجات من الاحتياجات ضمن وضع إستراتيجيات ذات رؤى عميقة هو الهدف النهائي.