قد يتساءل أي شخص هل نستطيع تشكيل رأي الجماهير؟ وهل هناك أدوات تسهم في بناء ذلك؟ إن الإجابة تحتاج إلى نوع من التفصيل ونوع من الدراسات التي قامت بهذا النوع من البحث في عقلية الجماهير، على اختلاف مستوياتهم واهتماماتهم، خاصة أنه في وقتنا الحاضر ومع الثورة الإعلامية وتنوع وسائل التواصل الاجتماعي، قامت بعض الدول بتجييش وسائلها وإمكانياتها لخلق جو ورأي جماهيري معين حول قضية معينة. فالجماهير تشبه إلى حد ما طائر العنقاء في الخرافة القديمة. بمعنى أنه ينبغي أن نعرف كيف نحل المشاكل التي تطرحها نفسيتها علينا، أو أن نستسلم لها فتبتلعنا.
ومن تلك الأدوات: الكلمات – والصور- الشعارات – والأوهام- والتجربة- والعقل، ففي دراسات كثيرة حول مخيلة الجماهير رأينا أنها تتأثر بالصور بشكل خاص.
فهي تبهرها فعلاً. وإذا لم نكن نمتلك الصور فإنه من الممكن أن تثيرها في مخيلة الجماهير عن طريق الاستخدام الذكي للكلمات والعبارات المناسبة. ولعل مقولات أصبحت خالدة في عقلية الجماهير ورمزا لأي تجمع حول قضايا مجتمعية أو اقتصادية أو عالمية، ومن أشهر هذه الشخصيات شخصية -مارتن لوثر- ومقولاته I have a dream (أنا لدي حلم)، أيضا جيفارا – عمر المختار - كارلوس – ماكس فيبر، والقائمة تطول من مثل هذه الشخصيات الملهمة في نظر الجماهير من خلال كلماتهم التي تمتلك القوة السرية التي كان أتباع السحر يعزونها إليها في الماضي. فهي تثير في روح الجماهير أقوى أنواع الإعصار، ولكنها تعرف أيضا كيف تهدئها. ويمكنها أن تبني هرما أكثر علوا من هرم كيوبس العتيق بواسطة عظام الضحايا فقط، أقصد ضحايا الجماهير التي هيجتها الكلمات والعبارات. إن قوة الكلمات مرتبطة بالصور التي تثيرها، وهي مستقلة تماماً عن معانيها الحقيقية. والكلمات التي يصعب تحديد معانيها بشكل دقيق هي التي تمتلك أحياناً أكبر قدرة على التأثير والفعل، ولعل بالمثال يتضح المقال، فمنها الكلمات التالية: ديمقراطية، حرية، مساواة، إلخ.. فمعانيها من الغموض والضبابية والفوضى المتعمدة في المعاني بحيث إننا نحتاج إلى مجلدات ضخمة لشرحها. لاختلاف معانيها واستخدامها والبيئة التي نشأت فيها، ومع ذلك فإن حروفها تمتلك قوة سحرية بالفعل، كما لو كان الدواء لكل داء في عقلية الجماهير، فهي تجمع الطموحات وتثير الغرائز المرتبطة بالإمكانيات اللاواقعية المتنوعة وتركبها، وتحتوي على الأمل في تحقيقها.
فالعقل وإن كان باسمه حاكما على الانفعالات والعواطف، لكن المحاجات العقلانية لا يمكنها أن تقاوم بعض الكلمات والصياغات التعبيرية. فما إن تلفظ بنوع من الخشوع أمام الجماهير حتى تحلو آيات الاحترام علي الوجوه وتنحني الجباه لها. والكثيرون يعتبرونها بمثابة قوة من قوى الطبيعة، وسحر حلال إن من البيان لسحرا أو قوى خارقة للطبيعة.
وبما أن الصور المثارة من قبل الكلمات مستقلة عن معانيها، فإنها تختلف من عصر إلى عصر، على الرغم من تماثل الصياغات التعبيرية ذاتها. وترتبط مؤقتا ببعض الكلمات بعض الصور. فالكلمة ليست إلا الريموت الذي نستخدمه لكي تخرج الصور فورا.
فإذا ما أخذنا لغة معينة للدراسة، وجدنا أن الكلمات التي تتألف منها تتغير بشكل بطيء عبر بوابة الزمن وأحداث العصور. ولکن الصور التي تثيرها أو توحي بها تتغير دون توقف، وكذلك المعنى الذي نربطه بها، إننا نحل بکل بساطة الصور والأفكار التي أثارتها الحياة الحديثة في عقلنا محل المفاهيم والصور المختلفة بشكل قاطع، والتي كانت الحياة القديمة تمارسها.
ولعلنا في هذا المقال نأخذ كلمة وطن كانت تعني في العصور القديمة عبادة أثينا أو سبارطة، وليس أبداً عبادة اليونان التي كانت مشكلة من مدن متنافسة وفي حالة حرب دائمة. ولکن نفس الكلمة، ماذا كان يعني معناها لدى القدماء المنقسمين إلى قبائل متنافسة، وأعراف ولغات وأديان مختلفة، الذين انتصر عليهم القيصر بکل سهولة، لأنه کان له بينهم حلفاء بشکل دائم؟
هكذا نجد أن الكلمات التي غيرت معناها عبر العصور كانت كثيرة. ولا نستطيع أن نفهم المعني الذي كان لها في الماضي إلا بعد بذل جهود كبيرة. وينبغي أن نقوم بقراءات أكثر عمقا وأكثر تحليلا سيسيولوجيا وديمغرافيا، للمجتمعات.
نستطيع أن نخلص مما سبق أن الكلمات ليس لها إلا معان ومفاهيم متحركة ومؤقتة ومتغيرة من عصر إلي عصر، ومن مجتمع إلي مجتمع ? وعندما نريد أن نؤثر على الجمهور بواسطتها، فإنه ينبغي علينا أولا أن نعرف ما هو معناها بالنسبة له في لحظة معينة، وليس معناها في الماضي أو معناها بالنسبة لأفراد ذوي تكوين عقلي مختلف، فالكلمات تعيش كالأفكار.
ولا أدل على ذلك من وجود هذه الأفكار والكلمات بيننا على الرغم من مضي أزمان مديدة على خروجها. فالأريب الحكيم توکفيل قال إن إنجاز نظام حكومة القناصل والإمبراطورية يتلخص أساسا في تلبيس معظم مؤسسات الماضي بكلمات جديدة. بمعنى أنها تستبدل بالكلمات التي تثير في المخيلة صوراً مزعجة كلمات أخرى تمنع بجديتها إثارة مثل هذه الصور.