الرجل الذي سُمي قبيل وفاته عام 1427 بأبي الأمة الأفغانية هو الملك محمد ظاهر شاه حاكم بلاده بين عامي 1351 و1392، تمتعت أفغانستان خلالها بالتقدم العلمي والاقتصادي والحضاري، لكن تلك الأعوام الأربعين، وأربعة تلتها من حكم الرئيس الانقلابي محمد داود خان، لم تكن كفيلة بأن تصنع من أفغانستان سداً يحول بين التقدم السوفيتي نحو حلم روسيا القديم إلى المياه الدافئة، خلافَ ما كانت الولايات المتحدة تؤمله من النظام الأفغاني ذي الصبغة العلمانية، وعلى أثر الاجتياح السوفيتي لأفغانستان اكتشفت الولايات المتحدة أن الذي يتصدى للمد الفكري الماركسي يجب أن يكون دولة عقائدية، وليست دولة علمانية كما كان الحال في أفغانستان، وكانت إيران هي المحطة الأخيرة في طريق السوفيت لتحقيق حلم القياصرة، وكان نظام شاه محمد رضا العلماني غير مؤهل للصمود أمام أي انقلاب ماركسي شبيه بانقلاب نور تراكي الذي حل في أفغانستان، ولم يعد هناك متسع من الوقت للاختيار والتفكير، فالخميني حل جاهزا ولا مانع من التضحية لأجله بالصديق الشاهنشاه.

ومع أن خدمات إيران الخميني فيما بعد ضد الاتحاد السوفيتي لم تكن بالكبيرة إلا أن المعسكر الغربي كله استفاد من الوجود الإيراني في أشياء كثيرة، بعضها كان مقصودا، وبعضها لم يكن كذلك، وحتى بعد سقوط الاتحاد السوفيتي الذي لم تعمل عقائدية نظام الملالي معه كما كان راسم السياسات الأميركية يتصور لها أن تعمل إلا أن النظام كان مفيدا من زوايا غير ظاهرة للعيان وكان من أوضحها:

تهيئة الأجواء السياسية والاجتماعية لتقسيم المنطقة العربية، وهي المرحلة التي تَرَاجَع العمل باتجاهها منذ تولي الرئيس دونالد ترمب.

والدوافع التي بعثت الإيرانيين على التظاهر عام 1399 تمهيدا لقدوم الخميني، يحمل الإيرانيون اليوم أضعافها من الغيظ على أصناف البؤس والفقر والظلم والاضطهاد والفساد بجميع أنواعه، ومع ذلك نجد الشارع حتى اليوم لم يحفل بالمتظاهرين بالقدر الذي كانت تنقله لنا التلفزة والصحافة آنذاك عن الحشود التي تملأ الشوارع بشكل لم تعرفه الثورات من قبلها، ولا حتى الثورات العربية الأخيرة من بعدها.

وقد كان جزء كبير من السبب يعود إلى الإيديولوجيا التي ظهرت للشعب الإيراني في صورة الشيخ المظلوم والمناضل من أجل رفعة الأمة الإيرانية وعقيدتها، والذي استطاع الإعلام العالمي الإيحاء للشعب الإيراني بأنه هو الأمل الباقي والمُخَلِّص الوحيد والخطوة الفاصلة بين الأمة الإيرانية الشيعية وبين النهضة العالمية، فكان جزء كبير من نجاح تلك الحشود يعود إلى الإعلام العالمي الذي وقف مع تلك الثورة بشكل سابق لزمنه، حيث سَخَّرت بي بي سي البريطانية برامجها كغرفة عمليات لتنسيق مواقع التجمعات والانتقالات للمتظاهرين في صياغة إخبارية مثيرة، وكان شاه إيران صادقاً حين قال ذات مرة إن بي بي سي هي التي خلعتني.

الثورة في إيران اليوم ينقصها ما كان متوفرا في ثورة 1399، وهما أمران:

الأول القيادة أو الرمز، والذي سوف يؤثر إيجاباً على الدعاية لمستقبل ما بعد سقوط الملالي، ويقطع الطريق على محاولات المحافظين والإصلاحيين تخويفَ الناس من أن تؤول الأمور في إيران إلى ما هي عليه في سورية؛ فمشكلة القضية السورية أنها بلا رأس، وهذا هو سر الفوضى والاحتراب الداخلي فيها، وحين يراد للصورة الإيرانية النجاح، وعدم الانتقال من حالة الدولة إلى اللادولة، فلابد للمعارضة الإيرانية من إيجاد رأس يمكن الاجتماع عليه كخيار مؤقت ريثما تجتمع الأمة ويسقط الجهاز القديم، ويملأ المكون الجديد فراغه.

الأمر الآخر الدعم الدولي؛ وقد قرأت لعدد من كتاب المعارضة الإيرانية وهم يرون أن الدعم الدولي يضر بالثورة باعتباره سيؤيد دعايات الحكومة حول عمالة الثائرين، وعندي أن كلامهم صحيح لو كان المطلوب من المجتمع الدولي تقديم دعم عسكري، فهذا سيوقف الثورة تماما، لكن المطلوب هو باختصار أن تفعل الدول الكبرى الشيء نفسه الذي صنعته مع الخميني دون زيادة.

والواضح الآن أن موقف روسيا والصين داعم للحكومة بشدة؛ وموقف فرنسا وبريطانيا، وهما عرابتا ثورة الخميني، أقرب ما يكون إلى الحياد؛ وقد بدا ذلك واضحا من كلمتي ممثليهما في مجلس الأمن.

وربما كانت زيارة الرئيس التركي إلى فرنسا قد احتوت على تأييد تركي للموقف الفرنسي المحايد من انتفاضة الإيرانيين، وهذا التحالف التركي الأوروبي في مواجهة الثورة الإيرانية ليس من صالحها حالاً أو مآلاً؛ ولا أشك أن توحيد المعارضة الإيرانية قيادتها على نحو ما أشرتُ إليه سابقا سيقدم تطمينات لأوروبا وتركيا تجعلهم يغيرون موقفهم من الثورة.

أما الولايات المتحدة فموقفها في مجلس الأمن كان قويا لصالح الثورة، لكن الحالة الراهنة في الحكومة الأميركية تشهد منذ عام صراعا غير معتاد، بين حكومة السياسات والإستراتيجيات، ويمثلها مجلسا النواب وأيضا المفروضون بشكل أو بآخر على الرئيس من أعضاء الحكومة وموظفي البيت الأبيض، وهؤلاء هم الذين يسيرون بأميركا وفق إستراتيجياتها البعيدة أو يُسَيَّرُون بها كذلك.

وبين الفريق الثاني وهم الرئيس ترمب وبعض من نجح في اختيارهم، وهؤلاء جدد على السياسة، أي جدد على ممارستها، ولا يتبعون توجها مألوفا في الإدارة الأميركية؛ ولهم وجهتهم الخاصة التي ترمي إلى العودة بأميركا إلى فلسفة التاجر وليس المستعمر.

فكل صوت إيجابي تجاه الثورة الإيرانية، فهو من هذا الفريق، ترمب وصحبه، وكل صوت سلبي فهو من الفريق الأول وحتى لو صدر من ترمب فهو جراء ضغط المحيط. ترمب هو الرئيس الوحيد في تقديري من ثمانية رؤساء سبقوه يحاول جاهدا أن يعبر عن توجهه الحقيقي وفلسفته لا توجه مراكز الأبحاث واللوبيات الضاغطة.

فهو حينما يقول سوف آتي بطائرات تحمل أجهزة لتشغيل الإنترنت في إيران فهذا رأيه في الثورة وأمنياته لها، لكن الحكومة الأميركية ليست هي الرئيس وحده كما يعلم الجميع.

الحاصل من هذه الجولة أن الإيرانيين في ثورتهم هذه أكثر انفراداً بالمسؤولية عن ثورتهم مع الخميني، ففي حين كانت الأولى مصنوعة لهم، يبدو أنهم هم صانعو هذه الأخيرة.