عند زيارة السيد وانغ يي وزير خارجية الصين لكندا العام الماضي قام بتقديم دعوة للكنديين من أصول صينية بالهجرة العكسية إلى الصين، وأنها ستسهل لهم العودة إلى موطنهم الأم. تأتي هذه الدعوة من السيد وانغ يي بعد أكثر من 230 عاما من تاريخ أول هجرة للصينيين إلى أميركا الشمالية، التي بدأت بـ30 أو 40 رجلا تقريبا يعملون في نجارة وصناعة السفن، ومن ثم بدأ عدد المهاجرين في التزايد مع بداية ظهور طفرة مناجم الذهب في كندا، حتى تمكنت تلك الأعداد المهاجرة من بناء مستعمرات في فيكتوريا وفانكوفر. وعملوا أيضا في بناء سكك الحديد حتى انتشرت الأحياء الصينية في معظم المدن الكبرى في كندا، وحصلوا على الجنسية الكندية، ورغم أن أبناءهم وأحفادهم لم يتمكنوا من زيارة الصين إلا أنهم يتقنون اللغة الصينية التي يتحدثون بها مع آبائهم وجداتهم، والآن بعد كل هذه السنين وبعد أن زالت أسباب الهجرة وأصبحت بلادهم مطمعا للمهاجرين وبيئة جاذبة للمستثمرين يفكر كثير منهم ،بل قرر عدد منهم العودة إلى الوطن الأم الصين، وخاصة بعد دعوة الحكومة لهم، ولماذا لا تدعوهم إلى الهجرة العكسية وهي الدولة التي أصبحت مقصدا للمهاجرين لمكانتها الرفيعة في العالم، ولما لديها من القوة الاقتصادية التي تتعزز باستمرار، وبلغ عدد الخبراء الأجانب المهاجرين إلى الصين 610 آلاف خبير أجنبي، يعملون تحت إدارة المصلحة الوطنية، و244 ألف أجنبي يعملون تحت إدارة الموارد البشرية، وغيرهم الملايين من الطلاب الأجانب والباحثين في مرحلة الدراسات العليا.
وأنا أتابع أخبار هجرة الصينيين العكسية من كندا وكافة بلدان العالم تساءلت متى سيحين موعد هجرة العرب العكسية؟!
العرب الذين اضطرتهم الظروف للهجرة إلى كل أراضي الدنيا، العرب الذين رغم البعاد بينهم وبين البلاد إلا أنه مازال يغشاهم الحنين لأن يعودوا إلى وطنهم الأم، واصطلاح شعراء المهجر وأدباء المهجر أعتقد أنه لم يخلق إلا لما رَآه الناس من صدق المشاعر في كتاباتهم وأشعارهم التي لا تخلو من التعبير العميق عن الشوق إلى الأوطان، فهذا الشاعر إيليا أبو ماضي يزهد في نيويورك حنينا إلى قريته وبلده الأم قائلا:
«أَنا في نيويوركَ بالجسمِ وبالروحِ.. في الشَرقِ على تِلكَ الهِضابِ
في ابتسامِ الفَجرِ وفي صَمتِ الدُجى.. في أَسى تشرينَ في لَوعَةِ آبِ».
مازالت أسباب هجرة العرب إلى كل مكان مستمرة، بل أصبحت متزايدة بعد فوضى الخريف العربي، التي كانت رياحا عاتية أسقطت كل الأوراق وجرفتها وجعلت العالم العربي كأشجار عارية الأغصان، لا يمكن لأي جهة أن تحصي عدد المهاجرين العرب بعد الحرب العالمية الثانية، لم تكن هجرة فقط، بل ضياع ثروات بشرية لو وجدت البيئة المناسبة لكان العالم العربي الآن أنموذجا للقوة والمكانة العالمية، بعض التقارير تؤكد أن 54 بالمئة من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج لا يرغبون في العودة إلى بلدانهم بعد التخرج، وتشير الإحصاءات إلى أن 34 بالمئة من أطباء بريطانيا هم من أصول عربية، ذهبوا إليها للدراسة، ومن ثم لم يعودوا إلى بلدانهم، لأنهم بكل بساطة لو قرروا تغليب الحنين إلى الوطن على طموحهم في مستقبل وظيفي مشرق لكان الندم مصيرهم، فالشاب في مقتبل عمره لديه الاستعداد لهجر الأهل والأصدقاء والوطن من أجل تحقيق مكاسبه وطموحه، ولكن ما هي إلا سنوات قليلة بعد تحقيقه لطموحاته حتى يستيقظ ليجد نفسه وحيدا وغريبا في بلد بعيد عن وطنه وأهله وأصدقائه.
الصين الآن تحاول بقوة صناعة هجرة عكسية لشعبها المهاجر، وخاصة رجال الأعمال والأطباء والمهندسين والخبراء، وفرت لهم كل السبل للعودة والتسهيلات والإغراءات لأنها تؤمن بأنهم قوة معطلة لو استطاعوا أن ينجحوا في عودتهم لأسهموا بشكل فعال في بناء بلدهم لما يملكونه من رأس مال وخبرات ومهارات وعلم وتجارب في أرقى دول العالم، مثل كندا والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وغيرها.
وللهند أيضا تجربة قوية في دعوة المهاجرين من أبنائها بعد أن هيأت لهم المناخ العلمي المناسب، وبالفعل عاد كثير منهم، وخاصة المتخصصين في مجال البرمجيات الذين حققوا نجاحات كبيرة.
رغم أن العالم العربي لم يصل حتى الآن إلى المرحلة التي تغري المهاجرين من العرب بالعودة، إلا أنه بتوفير البيئة العلمية المناسبة لهؤلاء المهاجرين ربما يتم إغراؤهم بالعودوة للعمل من أجل المساهمة في بناء أوطانهم، بناء المستشفيات المتخصصة في مدن سكنية ذات بيئة جاذبة للكادر الطبي، ومنحهم رواتب جيدة بوسعها أن تجذب كثيرا من الأطباء العرب المهاجرين إلى دول الغرب، وبناء المدن الصناعية بذات المواصفات بوسعها أيضا جذب كثير من المهندسين الخبراء من العرب، وهؤلاء هم أهم أدوات صناعة القوة في عالمنا العربي. يجب علينا أن ندعوهم إلى العودة فورا، وأتمنى أن أرى اليوم الذي يقف فيه وزير خارجية لأي دولة عربية بكل ثقة ليدعو المهاجرين العرب إلى العودة بعد أن يهيئ لهم المناخ المناسب والمغري لأن يخدموا وطنهم.