كتب الأستاذ ممدوح المهيني مقالا على موقع العربية نت بعنوان: «في أي يوم ستنهار أميركا» قال من خلاله: «يطرح هذا السؤال وكأنه حقيقة ثابتة تنتظر فقط الحدوث. الانهيار حاصل لكن السؤال هو متى. ولكنها في الحقيقة خليط من الأمنيات والهلوسات الذهانية وتنبؤات الكهان أقرب منها إلى التحليل الواقعي». وذكر خلال المقال أن توقعات تجاوز الصين لأميركا هو أمر غير واقعي، بل هي مجرد موضة في عالم التحليل السياسي والبحوث والدراسات، مثلها مثل الموضة التي انتشرت سابقا بأن الاتحاد السوفيتي سيتجاوز أميركا، ومثلها مثل موجة التوقعات في السابق بأن اليابان ستتجاوز أميركا. وكل الحقائق والإشارات التي ذكرها الكاتب ينحصر توقيتها في القرن التاسع عشر، الذي يسمى بقرن أميركا، ولكن ماذا لو عدنا بالزمن إلى الوراء قليلا، إلى القرن الثامن عشر، قرن الإمبراطورية البريطانية التي كانت من أكبر الإمبراطوريات على مدى التاريخ.
في القرن الثامن عشر، من كان يتوقع أن هذه الإمبراطورية العظمى التي لا تغيب عنها الشمس ستنهار يوما ما لصالح الولايات المتحدة الأميركية، لم تكن لغة الإعلام والإحصائيات والأرقام موجودة في ذلك الزمن، ولكن كما ذكر المؤرخون أن بداية انهيار إمبراطورية بريطانيا العظمى هي عندما بدأت دول أخرى مثل ألمانيا وأميركا منافستها في عالم الصناعة بعد أن كانت بريطانيا أول دولة صناعية وأعظم اقتصاد عالمي، ولكن سرعان ما لحق بها الاقتصاد الأميركي منافسا لها بشراسة، وكانت المنافسة الاقتصادية هي بداية الانهيار البريطاني والهيمنة الأميركية، وخاصة خلال الفترة 1873-1896 التي سميت بفترة «الاكتئاب الطويل» للكساد التجاري الشديد الذي سببته المنافسة الشرسة، وانخفضت حينها الأسعار، وأدى إلى ضغوطات كبيرة على الحكومة البريطانية.
في القرن العشرين نحن الآن في زمن لغة الأرقام، ولغة الأرقام لا تكذب ولا تجعل مجالا للهلوسات الذهانية، وتنبؤات الكهان كما ذكر الأستاذ ممدوح المهيني في مقاله، بل تجعل المحللين والاقتصاديين والقارئ والمهتم بمتابعة تنافس الدول الاقتصادية الكبرى يبنون توقعاتهم بشكل منطقي. ولذلك نرى الآن ما حدث في بداية انهيار إمبراطورية بريطانيا وتفوق أميركا يتكرر ما بين جمهورية الصين الشعبية والولايات المتحدة الأميركية، رأيته يتكرر من نافذة غرفتي الصغيرة التي استأجرتها قريبا من الجامعة الصينية التي أدرس فيها، كانت النافذة تطل على مصنع كبير يمتد تقريبا لمسافة 4 كم أمامي، في أول الأيام كنت أتابع من خلال النافذة في الصباح الباكر وقبل شروق الشمس دخول وخروج الموظفين بانبهار، كان عدد الموظفين كبيرا جدا، وأعتقد أنه لا يقل عن 10 آلاف موظف يمتدون على مدى بصري من الطابق الـ26 في صفوف طويلة من الشباب والفتيات الصينيات يرتدون زيا موحدا، ويدخلون بانتظام من خلال بوابات المصنع الكبيرة، وكأنهم جيش من النمل، قادني الفضول حينها لأعرف ما هو نشاط هذا المصنع، فسألت أول زميل قابلته في الجامعة عن نشاط هذا المصنع، فقال بابتسامة: «هاتفك الآيفون الذي تحمله في يدك من هذا المصنع»، وأنت عزيزي القارئ، وأنت أيضا أستاذ ممدوح المهيني الجهاز الآيفون الذي تحمله في يدك الآن أو تراه في يد صديقك أو مع أي شخص تقابله هو من المصنع الصيني الذي أتابعه من خلال نافذة غرفتي كل صباح.
قرار شركة «أبل» الأميركية أن يكون مصنعها لأجهزتها في الصين هو مثال بسيط جدا على منافسة الاقتصاد الصيني للاقتصاد الأميركي.
تطبيق «wechat» الصيني الذي يستخدمه أكثر من مليار مستخدم، والذي تملكه شركة «تينسنت»، بلغت قيمته 522 مليار دولار، متجاوزا قيمة تطبيق «فيسبوك» الذي تبلغ قيمته 519 مليار دولار، وجهاز «آيفون“ X الذي سوقت له شركة «أبل» مؤخرا بميزة شاشة الواجهة بالكامل قد سبقتهم إليه شركة الهواتف الذكية «شاومي» الصينية قبل عام كامل، وحقق نجاحات كبيرة في الصين والهند التي تمثل 40% من سوق الهواتف الذكية، الدكتور الصيني شيابينغ رن الأستاذ بجامعة «هاربين» الصينية يستعد في نهاية ديسمبر لأجراء أول عملية جراحية في العالم لزراعة رأس بشري، وفقا لعدد من التقارير الاقتصادية التي توضح حجم التبادل التجاري بين أميركا والصين، بلغت قيمة الواردات من الصين لأميركا خلال العام الماضي 463 مليار دولار، مقابل صادرات 116 مليار دولار، بعجز تجاري وصلت قيمته إلى 347 مليار دولار بنسبة 60% من إجمالي العجز التجاري الأميركي.
خسرت الولايات المتحدة الأميركية أيضا أكثر 11.2 مليون وظيفة بسبب الصين، ووفقا لمقالة نشرها «أندرس فوج راسمسون» رئيس وزراء الدنمارك السابق بين عامي 2001-2009 في صحيفة «الفاينشيال تايمز» البريطانية فإن الاستثمارات الصينية التي تزايدت في أوروبا نظرا لتراجع الاقتصاد الأميركي قد أثرت بالفعل على قرارات السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، واستشهد بوقائع فعلية حدثت في يوليو الماضي، حيث نجحت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، والتي تتمتع باستثمارات صينية كبيرة، في أن تسقط بيانا عقب حُكم ادعى فيه أن حقوق بكين البحرية والموارد البحرية في بحر الصين الجنوبي لا تتفق مع القانون الدولي. وإعاقة اليونان لبيان ينتقد سجل حقوق الإنسان في الصين.
إذا كانت الاستثمارات الصينية القوة الناعمة قد نجحت في كسب قوة سياسية في أوروبا، فكيف سيكون الوضع في إفريقيا وآسيا وأميركا الجنوبية، التي استثمرت فيها الصين بنسب كبيرة.
تفوق التنين الصيني في قادم الأيام على أميركا ليس مجرد موضة جديدة، بل هو صفحة سيكتبها التاريخ بأن القرن الثامن عشر هو قرن بريطانيا، والتاسع عشر هو قرن أميركا، والقرن العشرين هو قرن الصين.