نسمع كثيرا عن الرأي وتعدد الآراء ونسمع عن الأيديولوجيا وقد نميز بينهما وأحيانا يتداخلان فلا يمكن التمييز بينهما كما هو حاصل الآن في الساحة الثقافية والدينية لدينا، ولعل تداخلهما أتى من الانتقال من الأيديولوجيا كمنهج عام إلى العقل وإن لم نصل إليه بعد، وأن هذه المرحلة الانتقالية تستدعي اختلاط بعضهما ببعض وهذا يشوش كثيرا بل ويزيد من حيرة المتلقي فلا يعلم هل ما يقال رأيا صرفا أم أيديولوجيا ؟ ولذا لابد من فحص للرأي لمعرفة هل هو رأي حقيقي أم أيديولوجيا على شكل رأي، وهذا الفحص لابد له من قواعد حتى يخرج سليما، ومن أهمها معرفة ما يكون الرأي ثم معرفة نتائجه على أرض الواقع ومعرفة ما تكون الأيديولوجيا ثم نتائجها على أرض الواقع.

أما من حيث التكوين فنجد أن الرأي يخرج من النظر والاستنتاج والتأمل والمقارنة والمقاربة والتحليل ـ أي الرد إلى العناصر الأولية ـ والحسابات المنطقية المحضة وربط الأسباب بالمسببات، وربط الظواهر ببعضها مكانيا أو زمانيا أو نوعيا وغيرها من العمليات والآليات العقلية، وهذه لا تسبقها أي خلفيات مسبقة، وأما الأيديولوجيا فهي لا تتكون كالرأي ولا تأتي نتيجة لإحدى العمليات السابقة وإنما تخرج وتطفو على السطح وتظهر ولذا فهي تكتشف ولا تخترع لأن طابعها الكمون بسبب أن مصادرها غير منتجة كالأديان والمعتقدات والأعراف والتي تستقر في ذهن صاحبها كقناعات ترسبت مع مرور الزمن وتزداد قوة بمضي الوقت ولا يعدو هو أن يكون مظهرا لها فلسانه أو قلمه مرآة عاكسة لمكنوناته لا غير، وما يُظن أنه جديد للأيديولوجيا لا يعد كذلك لأنها تعيد تشكيل نفسها فتظهر بشكل مختلف فيظن المتأمل فيها أنها أنتجت جديدا مع أن الأمر ليس كذلك فمن يدعي أنه أنتج جديدا فيها ليس بالضرورة أن يكون إنتاجه وقوله رأيا، فالقول الذي يصدر قد يكون رأيا وقد يكون معتقدا وقد يكون انعكاسا لواقع وقد يكون بسبب وضع نفسي يعيشه، وقد يكون حزبيا وقد يكون سياسيا وقد تكون أيديولوجيا موظفة أي أيديولوجيا بصبغة عقلية، بل قد يكون هذيانا... الخ. فهذه جميعها قد تظهر على شكل رأي مجرد منبثق من عقل صرف مع أنها ليست كذلك وقد يزخرفها صاحبها بكلمات أو عبارات تستخدم مع الرأي أكثر من العبارات التي تستخدم مع الأيديولوجيا وعلى رأسها العقل نفسه فتجده يقول هذا الكلام يتوافق مع العقل مع أنه في حقيقته يتوافق مع العقل الأيديولوجي والذي هو مجرد منظم ومرتب بداخلها.

إن هناك ما يعرف بالعقل المكوِّن ـ بكسر الواو ـ والعقل المكوَّن ـ بالفتح ـ وهي قريبة مما أذكر ولكنها ليست هي المقصودة فهما مستويان لعملية التفكير التي تنتج رأيا ولكن الأول أبلغ في العقلانية من الآخر، أما العقل الأيديولوجي فهو أقل من العقلين السابقين بل إن إطلاق العقل عليه من قبيل المجاز فليس بعقل أصلا وإنما يظهر على شكل عقل فينبغي ألا ننخدع به وأن وجوده يعني وجود العقل، فالعقل قد يطلق على عدة أشياء فهناك العقل الكلي وهذا ليس بشريا أصلا وهناك العقل الإلكتروني وهذا في الآلات وهناك العقل الباطن الذي ينتج الأحلام والهذيان وهناك العقل الجمعي الذي يسوق أفراد المجتمع لتوجه واحد وغيرها وهذه كلها لا تفكر.

أما النتائج التي تعكس الواقع وهل يسيطر عليه الرأي أم الأيديولوجيا فتظهر على مدى الأعوام والسنين من انتشارهما وتغلغلهما فانتشار الرأي يؤدي إلى حراك واضح وتغييرات سريعة في المفاهيم وأحيانا استدراكات عاجلة فتصبح الحياة ذات حركة ودينامكية واضحة على جميع الأصعدة، بل إن الشخص ليجد أن ما يؤمن به الآن غير موجود قبل أعوام ولن يوجد بعد أعوام بحيث لا يستميت في تأطيره والدفاع عنه، أما الأيديولوجيا فإن ما يظهر في حال انتشارها عكس كل ذلك من بطء في تغيير المفاهيم والصعوبة في استدراك الآراء والتشبث بالقناعات والدفاع عنها وهذا هو ما يفسر ضعف متابعة المستجدات لدينا ووضع الحلول بخلاف الدول المتقدمة لأن المناخ العام مناخ أيديولوجي خارج العقل أي لم نعتد العقل، ولذا فالحراك الحقيقي والتغيير وإيجاد الحلول يكمن في مناخات الرأي وهو الذي يحترم ويعطى مكانة أدبية. أما ماعداها فأقصى ما يمكن فعله إزاءها هو عدم قمعها، ولكن لا يمكن أن تتساوى في التقدير والمكانة الأدبية مع صاحب الرأي الحقيقي، ومن هنا يظهر أن منع أصحاب الأيديولوجيا من المنابر المخصصة للرأي وعلى رأسها المنابر الإعلامية لا يعد من الإقصائية لأن الإقصائية هي منع صاحب الرأي الذي لا يتوافق مع رأي المانع أي إن العقل يمنع العقل فهذا هو المرفوض، أما منع صاحب الأيديولوجيا وخاصة إذا كانت معروفة مكرورة ـ وهي لا يمكن أن تكون إلا كذلك ـ فليست إقصائية لأن تلك المنابر ليست لها ولم توضع لها وخاصة إذا كان الطرح أيديولوجيا وحزبيا في نفس الوقت، أي إنه مبتعد كليا عن الرأي بل وذو طابع تحريضي، فهنا يعد منعه مطلبا لأنه من تفادي الاستغلال الحزبي للمنابر لا غير.