منذ بداية عهد الصحوة، رأينا كثيرا من رموزها يحثون على تكسير آلات الموسيقى وقتل كل أنواع الفنون، حاربوا كل محاولات المجتمع للتجديد بحجة درء المفاسد، كانت أرفف المساجد والمدارس والوزارات والقطاع الخاص مليئة بالمنشورات التي تحذر من مخاطر الهواتف بعنوان: «احذري التليفون يا فتاة الإسلام»، محذرين الفتيات من الذئاب البشرية التي تتصيدهن على الهواتف بأحاديث الحب والغرام، ومنشورات وزعوها في بداية ظهور التلفاز بعنوان: «الإجهاز على التلفاز»، وغيرها من المنشورات مثل: «فزع القبر» و«سكرات الموت»، وكثير من القصص عن الثعابين في القبور التي لا محالة ستكون عقوبة سامعي الأغاني، وكانت تفرد المسارح والمهرجانات لرموز الصحوة يحثون أبناء غيرهم على الجهاد في أفغانستان والشيشان والبوسنة والهرسك والعراق وسورية، ولم نر أحدهم يحث على الجهاد لمكافحة الفساد، لم نسمعهم يوما يحثون على معالجة المشاريع المتعثرة، أو يطالبون بكشف أسباب الفساد في بعض المشاريع، أو يوضحون للمجتمع أسباب الفساد وأنواعه وطرق معالجته، لم يعملوا لمكافحة الفساد أبدا، بل كان كل همّهم أن تنشتر منتجاتهم الصوتية والمرئية في كل فروع التسجيلات الإسلامية التي ملأت كل الأسواق والشوارع، وكانت التجارة الرابحة التي لا تبور، جعلت كتبهم وأشرطتهم توزع بعشرات الآلاف من النسخ، لم يكن منها ولو كتاب أو شريط أو منشور واحد يحمل عنوان قوله تعالى: «وإنه لقسم لو تعلمون عظيم»، يذكّرون به مسؤولي الوزارات والدوائر الحكومية بالقسم الذي أقسموه أمام قيادة الوطن
للحفاظ على مصالح الدولة، والأمانة في تأدية الواجبات على أكمل وجه، والأثر السلبي للفساد على المجتمع والاقتصاد الوطني وعلى كيان الدولة، واستمرارها في النمو والازدهار.
خلال فترة الصحوة، ظهر كثير من آثار الفساد السلبية على السطح، مشاريع تعليمية وصحية وخدمية وغيرها، متعثرة، لم يستنكروها بل كانت كارثة السيول التي ضربت جدة عام 2011، وراح ضحيتها أكثر من 100 شخص، وإصابة المئات، وتدخّل لإنقاذ الموقف قوات الجيش السعودي والحرس الوطني، وتعطلت كل سبل الحياة في ثاني أكبر مدينة سعودية، لم نجدهم في ذلك الوقت ينشرون منتجاتهم المرئية والسمعية التي تجرم الفساد، وتبين الأدلة الشرعية التي تحرّمه، بل استغل بعضهم الموقف للتأكيد على أن ما كانوا يحذرون منه من العقوبات الإلهية قد وقع بسبب المعاصي والذنوب التي يرتكبها سكان جدة من سماع الأغاني، وعدم تغطية وجوه النساء، وانتشار كل مشاهد اللهو، بينما لو حلت الكارثة نفسها على المدن التي ينتسبون إليها، لوصفوها بأنه امتحان من الله ليختبر صبرهم واحتسابهم، ويجزيهم على ذلك الأجر العظيم.
كل مسؤولي الوزارات والجهات الحكومية ورجال الأعمال الذين يواجهون تهم فساد هم من الذين عاصروا فترة الصحوة، ومروا بكل مراحلها منذ بدايتها وحتى نهايتها، لم تُجدِ كل مواعظ وخطب رموز الصحوة في منعهم من التورط في قضايا فساد، لأنها لم تكن موجهة إلى مثل هذه الأمور المهمة، لم يكن يذكّرونهم بالقسم الذي أقسموه بأن يؤدوا الواجب بأمانه وعلى أكل وجه، لذلك وجدنا أن الفساد موجود بيننا مثل ما هو موجود في الصين أو فرنسا أو أميركا وكل دول العالم دون استثناء، وأثبتت كل التجارب في مكافحة الفساد أنه لا يوجد هناك شعب نزيه وشعب فاسد، بل هناك قانون غير حازم ويوجد به خلل يستغله البعض للتكسب لصالحهم أو لصالح أقاربهم، وهناك قانون رادع ومحكم وقوي يمنع كل من تسول له نفسه استغلال منصبه للحصول على أموال غير مشروعه، من خلال قبول الرشاوى، أو ترسية مشاريع وهمية، أو تغيير جودتها، أو تجاوز الأنظمة لتمرير معاملات غير نظامية، أو توظيف الأقارب والأصدقاء غير المؤهلين وغير المنطبقة عليهم الشروط.
في اعتقادي، أن الصحوة أسهمت في انتشار الفساد، وذلك لأنها أشغلت المجتمع بتوافه الأمور، مثل الهاتف والجوال الكاميرا والبلوتوث والتلفاز وسماع الأغاني، ولم تسهم في استغلال تأثيرها في تلك الفترة بتوعية المجتمع بأهمية مكافحة الفساد ومحاربته، ولم تطالب بسنّ القوانين الرادعة للفاسدين، بل أشغلت جيلنا بقضايا لا تسهم في بناء المجتمع لا معرفيا ولا اقتصاديا، وأشغلت المتأثرين بهم بقضايا الجهاد، وحثتهم على الذهاب إلى الموت في سبيل الله، بينما الفاسدون يتقبلون الرشاوى في المكاتب الفاخرة، ويزورون العقود، ويختلسون من المال العام، ويوظفون غير المؤهلين على حساب الأكفاء والخبرات، ويتركون المشاريع التي تمس مصالح المواطن تتعثر دون أي مواجهة من رموز الصحوة، وهذا والله لأكبر فساد.