قصة طويلة أُلخصها في سطور، ولعل ملخصها يفسر لك كثيرا مما يحيط بنا اليوم من أحداث، وتُجِيبنا عن بعض ما يدور من تساؤلات حول إقرار الرياضة في مدارس البنات وما شابهها من قضايا.

والقصة هي:

دولة بُنِيت أواسط القرن الهجري الماضي بأيدي أبنائها، وكَوَّنت نظامها وأُسُسَ حكمها على وفق ما يقتضيه دينها وعرفها وتاريخها.

فوجئت دولُ العالم المُتَسَيِّد بأن هذه الدولة نشأت في غمرة انشغالهم بحربين عالميتين، فحاولوا إسقاطها مبكرا، مرة عبر دعم المناوئين لها من داخلها، ومرة من خارجها عبر محاولة قصف سواحلها، لكن الدولة كانت قد أخذت وضعها العالمي، وموازين القوى السياسية في العالم قد تغيرت.

ولم يكن نشوء الدولة كما تريد هي لا كما يريد الغرب مرضيّا لهم، فسياستهم بعد انقضاء الاستعمار ليس رسمَ الخرائط السياسية لمستعمراتهم السابقة وحسب، بل رسم الصورة الأخلاقية والهيئة الاجتماعية، وكذلك الرؤية المستقبلية والتصورات المعرفية والتقاليد العرفية، وكانوا قد حققوا في كل ذلك نجاحات متفاوتة المقدار في البلاد التي استضعفوها وحكموها، لكنهم لم يكادوا يستبرؤون من أوجاع حروبهم المتوحشة إلا وواقع المملكة العربية السعودية المحلي والدولي مضافا إلى تناقض مصالحهم، يفرض عليهم قبولها على مضض والصبر عليها على تربص.

فمن حين تم إعلانها ومحاولات الغرب استعمارَها ثقافيا وسياسيا تجري على أشدها، وليس المقام سانحا لتفصيلها، لكن أقتصر على الصورة العامة للمجتمع السعودي والتي أحكمت تشكيلَها الفتاوى الفقهية قبل كل شيء، ثم ما لا يعارض الشرع من الأعراف المدنية والعشائرية.

فمنظرو السياسية الغربية لا ينظرون لمجتمع كهذا نظرة إيجابية، ليس لأنه متخلف وفق معاييرهم كما يتصور البعض، أو كما يحاولون هم أن يصوروا لنا، لا، لا، فلو كانوا مقتنعين حقا بتخلفنا لمـا وجدوا بأسا في بقائنا عليه، كما لم يجدوا بأسا في إبقاء آلاف القبائل الإفريقية والآسيوية والأميركية على حالها من الانحطاط السلوكي في العادات والتقاليد مع حكمهم ديارها عشرات السنين، ولم يحاولوا أن يغيروا فيها شيئا سوى عادة واحدة نجحوا في استئصالها في كل تلك البقاع، وهي نفور أهلها من الوجود الأوروبي وسطوته عليها، ليجعلوا من أدغال هؤلاء وصحاراهم مرتعا لكل مستغل لثروة أرضهم، وكل مغامر فضولي أو مستكشف علمي.

فليس حرصهم على تغيير مجتمعنا رأفة بنا من التخلف الذي يزعمونه فينا، بل لأن مجتمعا -أي مجتمع- يحتكم إلى شريعة نَيِّرة في بناء عاداته وأعرافه وتصوراته، لا يمكن أن يكون يوما من الدهر رهنًا لمشاعر النقص والذلة والتبعية لأمة الغرب وثقافتها، بل سيكون مجتمعا شاعرا بتميزه مقتنعا بأصالته متطلعا لتجديد تاريخ سيادته، وهذه صفات تسعى دول استدمار الأمس واستغمار اليوم إلى قتلها في أمم الأرض كلها، وليس من سبيل لذلك إلا التنصير، وهو مشروع ثبت فشله بين أخطر أمم الأرض على سيادة الغرب على العالم وهم المسلمون، وبقي معهم لعزل الإسلام عن حكم الحياة العامة ثلاثة أسلحة، أحدها: تشجيع الانحرافات العقدية داخل الدين، ولما كان المنهج السلفي أكثر المناهج تمنعا على الانحراف تصدوا له في كل بلد وجدوه فيها، من الهند حتى المغرب.

الثاني: تشجيع انتشار الفكر العلماني بين المثقفين، وهو انتشار قد يأتي تلقائيا نتيجة الصدمات الحضارية التي تواجه الشباب المثقف، لكنه ولا شك يحظى بتشجيع كبير من مؤسسات الغرب، كما أن معتنقي هذا الفكر يتم الضغط دوليا في كثير من دول العالم الإسلامي لتقريبهم من دوائر اتخاذ القرار أو إيصالهم إليها.

الثالث: إدخال التقاليد الغربية إلى المجتمعات المسلمة تدريجيًّا عبر الفتوى الشرعية مستغلين بعض القواعد الفقهية كقاعدة: الأصل الإباحة، وقاعدة: رفع الحرج، ومن ثَم تأطير تلك المدخلات بالأُطُر التي تنحرف بالمجتمع عن صورته التي تريدها الشريعة.

وقد ساعدَت سطوة المستعمر في البلاد الإسلامية على تمرير هذه الخديعة على علماء المسلمين، إما عن طريق تهميش وإقصاء الواعين منهم بحقيقة الخطر، وإما بتقديم علماء تشربوا الفهم الليبرالي للإسلام، فاشتغلوا بتأويل نصوصه، وتعطيل بعض قواعده الأصولية والفقهية لتمرير بعض الفتاوى التي تسهم في صبغ المجتمع المسلم بالصبغة الغربية.

وكان نتيجة ذلك أن وقعت المجتمعات المسلمة فيما يشبه الغربة عن طبيعتها الإسلامية في كثير من المفاهيم، كالمفهوم الإسلامي لمكانة المرأة ومكانها، ومفهوم المسؤولية وحقيقتها وأشكالها ومتعلقاتها، ومفهوم الاقتصاد الاجتماعي.

حتى ظهرت المجتمعات الإسلامية في صورة مشوهة لا تسُرُّ من في داخلها ولا الناظر إليها، ووجَدَت الخروج منها للعودة إلى الهيئة التي أرادتها الشريعة لها أمرا عسيرا ومكلفا، وفي حاجة إلى مخاضات كثيرة مُرة ومؤلمة.

وكان علماء الدين في المملكة العربية السعودية يراقبون ما يحدث حولهم بدقة، مع استحضار فقه رصين بالواقع، ووعي كامل بالماضي، واستشراف للمستقبل، لم يتهيأ مثله لأحد من علماء المسلمين في العصر الحاضر.

فعرفوا أن تغيير هيئة المجتمع لتقترب من المجتمعات الغربية مطلب ملح للعديد من المؤسسات الأممية والدولية، ليس لترتقي به وفق المفهوم الغربي، بل لتعزله عن أصوله الفكرية وتجعله فَقْعَة قاع لا جذور لها ولا أغصان.

وعلموا أن المكر كُبَّار، وأن المؤامرة على أخلاق الأمة وقِيمها محكمة، ولا مخرج منها إلا بالصبر ولو كان على ما لا يطاق، وإحْكام الفتوى ولو خالفت هوى متبعا وشُحّا مطاعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه.

فتمسكوا بدليل سد الذرائع، ليحُولوا دون اتخاذ إباحة الأصل دركة من دركات الانحطاط، كما حدث في المجتمعات المحيطة مِثلًا بمثل، وخيرًا والله قد فعلوا، وخيرًا فعل ملوك بلادنا من عهد المؤسس حتى يومنا، حين جعلوا فتوى أهل العلم في جل ذلك هي المقدمة، فحمى الله مجتمعنا من معظم صور الغربة والتغريب التي حدثت عند غيرنا، مع تحقيق إنجازات في الحياة الاجتماعية والأمنية والتعليمية، لم تصل إليها معظم الدول التي ابتليت بتغريب مجتمعاتها، بل ربما لم تصل إليها المجتمعات الغربية نفسها، وهي مزايا نستمع إليها في شهادات كثير من الغربيين رجالا ونساء، وإن كنا قد لا نستبينها من أنفسنا، إلا أن نظرة الإنسان لظاهر غيره أدق من نظرته لظاهر نفسه، وهذا ما نستفيده من استماعنا للشهادات الغربية المحايدة والبعيدة في الأغلب عن الصحفيين والفنانين والسياسيين.

والحقيقة أن الضغوط العالمية لتغيير هيئة المجتمع السعودي قد أصبحت في السنوات الأخيرة أكثر ضراوة، بحيث خرجت من مستوى التآمر والسرية إلى الظهور عبر تقارير مؤسسية وتصريحات سياسية.

وهذا ما جعل أهل العلم أكثر تمسكا من ذي قبل بفتاواهم الذرائعية، فلم يكن خروج التآمر الغربي من السرية إلى العلن فيما يتعلق بأخلاق المجتمع وعاداته وتقاليده وبنيته الأسرية، إلا أكبر شاهد على صحة فقه علماء بلادنا وقادتها بالواقع، ومتانة استقرائهم للمستقبل.

ولذلك فالمنتظر من كل مَعْنِي باتخاذ القرار اليوم أن يلزم قانون هذه البلاد الذي التزمه قادتها وعلماؤها منذ تأسيسها، والمتلخص في دعم سبل الممانعة ضد الغزو الثقافي الغربي وتأثيراته الاجتماعية والاقتصادية، وليكن حاضرا في الذهن أن هذه الممانعة كانت وستظل رِدءًا للحفاظ على هذا الكيان السياسي العظيم، فإن الشريعة توهجت في المدينة التي يقول ساكنها عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: (عليكم بالسمع والطاعة). وأما العلمانية فانبثقت في باريس حيث كان يقول مُنَظِّروها: «اخنقوا آخر زعماء فرنسا بأمعاء آخر قسيسيها».