تناقلت وسائل الإعلام مؤخرا ما فعله أحد الرقاة بإحدى المريضات من صعق بالكهرباء أدى لوفاتها مما يعني استعادة ذلك الجدل القديم حول حقيقة المس والتلبس والذي لم نخرج بحل بشأنهما بسبب دخول صراع العقل والنقل على الخط ، وتحولها من مسألة جزئية الى رمز لقضايا كلية ككثير من جدالاتنا التي تحمل نفس الصبغة أي أن هناك تقديما للعقل على النص يراد فرضه من خلال هذه المسألة وأن الإصرار على القول القديم به نوع من الوقاية ضد العقلانية الوافدة، في حين أنه بتجريد المسألة وإخراجها من حلبة الصراع إلى حلبة البحث والنظر سنجد أن هناك نقطة يمكن الالتفاف حولها وهي إنكار الدخول العضوي للجان في بدن الإنسان والتي يتحول معها المريض إلى مسخ لا يشعر بما يدور حوله وأن المضروب في حال الرقية هو الجان وهو الذي يتألم وليس الإنسان، فهذه هي النقطة الجوهرية التي يجب أن يدور حولها البحث لا المس ولا التلبس بهذا الإطلاق فكأن الخلاف حول معنى المس والتلبس وليس في وجودهما، فنحن وإن أثبتنا التلبس والمس إلا أن هذا لا يعني أننا نثبت الامتزاج ليصبح المخلوقان مخلوقا واحدا كما يدعي الرقاة صراحة أو ضمنا، وأنه بعد أن يشفى المريض يرى أثر ضرب على نفسه فيسأل من أين هذا فيخبر أنه من جراء عملية إخراج الجان فهذا هو الذي لا يمكن إثباته لأنه نوع من الأسطورة بل سيصح معها نفي المسؤولية عن جميع تصرفاته قبل العلاج لأنه لم يكن هو المتصرف، وهذا التعذيب هو ما جعل الموضوع يطفو على السطح ولولاه لأصبح موضوعا فكريا بين المختصين بل ولا يهم كثيرا إثباته أو نفيه، بدليل أن الخلاف حول الإصابة بالعين أقل بل ربما يكون هناك اتفاق بشأنها لأنه لا يصاحبها دعوى الامتزاج والتحول وأن هناك جانا لا بد من إخراجه بالقوة الجبرية وإنما مجرد التأثير الخارجي
إن ذلك الاندماج والتحول لا يمكن أن يحصل لأن الجان من مادة والإنس من مادة أخرى، وهذا بخلاف التأثير أي أنه يؤثر على الإنسان من بعيد فهذا قد يحصل، وفي حال التعذيب فإن المريض هو الذي يعذب لا الجان لأنه خارجه وسواء شعر به أم لم يشعر لأسباب عضوية فطالما أننا اعترفنا أن الجن مخلوقات وأنها موجودة فالتأثير إذن موجود فسائر المخلوقات يؤثر بعضها على بعض مثل ما تؤثر الميكروبات على الإنسان، وطالما أيضا أننا نعترف بالوسوسة فإنه يتعين علينا أن نعترف بالتأثير لأنها تأثير، ومن يثبت الوسوسة لا يثبتها تلبسا وإنما يثبتها تأثيرا عن بعد فكذلك التلبس والمس فهما وسوسة بدنية لا دينية فهي التي تحصل بها أذية الإنسان أو إعطاؤه معلومات غريبة يتحدث بها، وهذا هو معنى قول من ينفي التلبس أن تأثير الشيطان قاصر على الوسوسة فقط فالوسوسة هنا وفق هذا المعنى الواسع لا أنه يراد به صرفه عن العبادة أو تزيين المعصية.
إن النص الذي يستدل به من يقول بالتلبس الجسماني الاندماجي وهو قوله تعالى (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) ليس به دلالة على مرادهم، لأنه يثبت التأثير لا الامتزاج فهل المس هنا تأثير أم امتزاج؟ بل حتى التأثير يثبته بشكل ضعيف فالآية تعطينا هنا صورة متخيلة تركيبية في الذهن لا صورة حقيقية لها وجود على أرض الواقع كي نصل من خلال هذا التخيل إلى الحالة الرديئة لآكل الربا فهي كقوله تعالى (طلعها كأنه رؤوس الشياطين) ورؤوس الشياطين ليس لها وجود حقيقي فليست شيئا ماديا ملموسا يأخذ حيزا من المكان وإنما صورة متخيلة، وكقوله تعالى (كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما)، فهذه ليس لها صورة ملموسة مدركة فالليل لا يغطي الوجه تغطية مادية وإنما صورة متخيلة لذل المعاند المكابر وهذه مثلها فلا تثبت التلبس بمعنى التأثير إلا بشكل ضعيف فكيف بالدخول والامتزاج ، فالتخبط والمس وتعثر القيام في الآية صور ذهنية متخيلة لا حقيقية لها وجود، وكذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام "إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم" والتي يظنها البعض من أبرز الأدلة على التلبس العضوي لأن الجان وصل إلى الدم أي اخترق جسد الإنسان فأصبح بداخله فإن هذا النص مؤكد على أنه ليس هناك أي تلبس فهو حجة عليهم وليس لهم لأن سبب ورود الحديث هو أن رجلين انتابهما الشك في النبي وزوجته صفية فقال على رسلكما إنها صفية ثم ذكر الحديث ولم يكن الرجلان ممسوخين أو أنهما جان أو قد تلبس بهما الجان وإنما بشر فقد أسقط النبي عليهما وصف جريان الشيطان في الدم مع أنه وسوس لهما مما يدل على أن المراد الوسوسة لا غير.